هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يمر وقت طويل على انتخاب "إيمانويل ماكرون" رئيساً للبلاد حتى بدأت شرائح واسعة من الفرنسيين بنعته بـ"رئيس الأغنياء". وفي سياق تصاعد احتجاجات "السترات الصفراء"، أطلقوا عليه لقب "الملك" (le monarque)، في إشارة إلى تعاليه وعجرفته في التعامل مع المواطنين، والتعاطي القاسي مع تطلعاتهم ومطالبهم. بل إن بعضهم رفع شعار الاستقالة، مطالباً إياه بالرحيل، كما أن بعضاً آخر لم يتردد في التأكيد على أنه سيُعلن عن استقالته خلال خطابه الأخير (10 كانون الأول/ ديسمبر 2018).. حُجة هؤلاء في ذلك القياس على ما حصل لمؤسس الجمهورية الخامسة" الجنرال ديغول"، حين أعلن في خطاب من ثلاث دقائق نيته في الاستقالة إذا لم يحظ الاستفتاء على إصلاحاته بالقبول الإيجابي للشعب، وهذا ما حصل فعلا، ولم يحصل لنظيره ماكرون لاختلاف السياقين، على الرغم من تقارب حجم الاحتجاجات وحدّتها.
تُقنعُ القراءة الأولى للإجراءات المعلن عنها في خطاب "ماكرون" الأخير، وهو خطاب أزمة بامتياز، بأن ثمة اعترافاً واضحاً بالفجوة بين الرئيس ونخبته الحكومية وفريقه السياسي وقطاعات واسعة من الشعب الفرنسي، وأنها فجوة نابعة من طبيعة السياسات التي أقدمت عليها الحكومة الفرنسية خلال السنة ونصف السنة من انتخاب رئيسها، كما أكدت حيوية المجتمع الفرنسي ويقظته، وإصراره على عدم التفريط في مكتسبات العيش المشترك التي راكمها خلال قرون.
إن ثمة اعترافاً واضحاً بالفجوة بين الرئيس ونخبته الحكومية وفريقه السياسي وقطاعات واسعة من الشعب الفرنسي، وأنها فجوة نابعة من طبيعة السياسات التي أقدمت عليها الحكومة الفرنسية
ونميل إلى الظن بأن الفجوة تفاقمت منذ أربعين سنة أو أكثر، نتيجة أسلوب رئيس شاب، أقدم على إجراءات تردد سابقوه وأحجموا عن الإقدام عليها، لصلتها الحميمية بعيش الإنسان الفرنسي وكرامته. لكن هل ساعد خطاب ماكرون الأخير على ردم الفجوة، أو على الأقل رسم طريقا للتخلص منها؟ لا يبدو، مرة أخرى، أن ثمة مؤشرات دالة على أن خطاب الأزمة استوعبَ الأزمةَ، وفتح آفاقا واضحةً لإعادة بناء الثقة التي اهتزت بين مؤسسة الرئاسة وقطاعات واسعة من المجتمع الفرنسي. الأدلة على ذلك كثيرة، لعل أبرزها خوض حركة "السترات الصفراء" احتجاجاتها للأسبوع الخامس، واستمرارها في رفع سقف المطالب، على الرغم من الإعلان عن بعض الإجراءات المستعجلة، التي ستُكلف ميزانية فرنسا أكثر من عشرة مليارات يورو.
نستبعد جدا أن تفضي تظاهرات "السترات الصفراء" إلى تقويض عرش "ماكرون"، على الرغم من حجمها وقوة تأثيرها في الحياة السياسية الفرنسية، غير أننا نميل إلى أنها ستُضعف مكانة الرئيس "ماكرون" وحركته السياسية، وستقلص نفوذه السياسي الداخلي والأوروبي. ودون شك، إن استمر المتظاهرون يقظين، سيدفعون دفعا مؤسسة الرئاسة إلى إدخال تغييرات جوهرية في برنامجها الإصلاحي، وربما الاستغناء عن بعض فقراته.
تعَّرفُ السياسيةُ دائما بأنها "فن أو فعل الممكن"، كما تُخبر التجربة بأن ثمة فرقاً بين "الرغبة" و"الممكن"، وأن الرجاحة باستمرار للممكن لا للرغبة. ودون شك، إن نباهة "ماكرون" التي قادته إلى الاعتراف بالأزمة، وإيصال اعترافه لثلاثة وعشرين مليون متابع بكلمات موزونة ونبرة حزينة؛ ستقوده مرة أخرى إلى فعل الممكن، والإنصات لنداءات المجتمع. بل إن اعترافه بالأزمة والدعوة إلى الاستماع إلى نبضات المجتمع لم يعبر عنهما أمام شعبه، بل نصح بها الأوروبيين، الذين اكتووا ويكتوون بالأزمة نفسها (إيطاليا، اليونان، إسبانيا، البرتغال).
إن استمر المتظاهرون يقظين، سيدفعون دفعا مؤسسة الرئاسة إلى إدخال تغييرات جوهرية في برنامجها الإصلاحي، وربما الاستغناء عن بعض فقراته
لا يبدو، من جهة أخرى، أن الفجوة في فرنسا نابعة من العُسر الاقتصادي والاجتماعي الذي ألمَّ بالفرنسيين، وجعل قرابة العشرة ملايين منهم في عتبة الفقر، بل يعود أيضا إلى ضعف التواصل السياسي بين النخب والمجتمع. ففي ذروة مظاهرات "السترات الصفراء"، تمَّ التعبير بقوة عن الشرخ السياسي الذي يسِم علاقة المجتمع السياسي بالمجتمع المدني، وانسداد الحوار المطلوب بين الناخبين والمنتخَبين على اختلاف مستوياتهم، بل عبرت غالبية الفرنسيين عن أن ثمة خذلاناً من قبل من فَوّضَ لهم الشعب سيادته في التمثيل والوساطة، بمن فيهم رئيس البلاد، وأن العديد من السياسات التي تتحكم في مصائرهم تُصنع في غياب مطلق لمشاركتهم.
لذلك، يرتهن مستقبل الرئيس "ماكرون" بطبيعة التغييرات التي سيُدخلها على أسلوب أدائه، أي نمط حكمه، كما يرتبط بمدى قدرة حركة "السترات الصفراء" على تعميق هيكلة ذاتها وتنظيم صفوفها، وبمدى نجاحها في التحول إلى حركة ذات عقل يخطط لها، ويوجهها، ويقودها إلى برّ الأمان.. فبدون هذه الازدواجية في التغيير العميق؛ يصعب القيام بتوقعات رزينة ورصينة عن مآلات "السترات الصفراء" في علاقتها برأس السلطة والحياة السياسية عموما في فرنسا.
وفي كل الأحوال، كل حركة تنطوي بطبيعتها على ديناميات، يصعب في الكثير من الأحيان التعرف عليها مسبقا، أو التكهن بمستقبلها. فالسترات الصفراء تجتهد يوميا في أبداع طرق نضالها، وآليات استمرارها، وهي الآن في طريق التحول إلى حركة قارية على امتداد التراب الأوروبي، ومن يدري إلى أين تصل غدا؟.. هكذا بدأت الثورة الفرنسية لعام 1789 فرنسية، لكنها تحولت بالتدريج إلى مبادئ وقيم مشتركة على الصعيد الأوروبي، والعالم الغربي عموما.