هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ارتفع مستوى مخاوف التونسيين من عودة التوتر إلى المشهد العام، وعظمت توقعاتهم (التي لم تكذبها الأحداث) بعودة التحالف بين رئيس الجمهورية واليسار الاستئصالي
إننا أمام مواجهة "وجودية" مفتوحة لا يحكمها
إلا قانون البقاء وعقلية التنافي ومفردات الحرب حتى وإن خرجت في صياغات أو إشكالات
قانونية. فرئيس الجمهورية لم يتوان عن الدفع بالخصومة إلى حدها الأقصى؛ غير مبال
بكلفته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية: اتهام رئيس الحكومة بمحاولة الانقلاب
عبر بلاغ للنيابة العسكرية، واتهام النهضة بامتلاك تنظيم سري بعد الثورة عبر
الجبهة الشعبية، وهو تنظيم تدفع به الجبهة، عبر هيئة الدفاع الخاصة بالشهيدين، لتحقيق
ما عجزت مكوناته اليسارية عن تحقيقه خلال حكم المخلوع بالتحالف معه ضد حركة النهضة
تحت شعار"مقاومة الرجعية"، وما كانت عنه أعجز بعد نجاح الانقلاب المصري؛
بمحاولة تَونسة السيناريو الانقلابي بدعم مكشوف من عرّابي الثورات المضادة، أي
الإمارات والسعودية.
من ابن علي إلى السبسي
مثلما فعل المخلوع ابن علي، لم يجد الباجي قائد السبسي (سليل
النظام الاستبدادي بلحظتيه الدستورية والتجمعية) أفضل من الالتجاء إلى خدمات
اليسار الوظيفي، خاصة من ينتمون إلى العائلة الوطنية الديمقراطية المعروفة اختصارا
بـ"الوطد". فبصرف النظر عن انتماء المرحوم شكري بلعيد إلى
"الوطد"، يعلم المهتمون بالشأن التونسي مدى تورط الكثيرين من المنتمين
إلى هذه العائلة اليسارية في جرائم المخلوع. فقد أسند إليهم النظام مهمات قيادية
في آلته القمعية بوجهيها الأمني (في وزارة الداخلية وفي القضاء) والأيديولوجي (في
حزب التجمع وفي الثقافة والإعلام والنقابات).
خلال فترة التوافق مع حركة النهضة، كان من الواضح أنّ
مبدأ الشراكة بين "الشيخين" كان ضرورة براغماتية بالنسبة لرئيس
الجمهورية، وأنه لا يتعامل معه من منطلق مبدئي أساسه الاعتراف بحقهم في المشاركة
في إدارة الشأن العام. فرئيس الجمهورية كان ينظر إلى النهضة أساسا باعتبارها تابعا
لا شريكا، ولم يكن يحتاجها إلا لإعادة التوازن للمنظومة القديمة التي دفعت به إلى
القصر على غفلة من الثورة. ولم يكن إنهاء التوافق بين الرئيس والنهضة ناتجا عن
إخلال النهضة بهذه الوظيفة، بل كان أساسا لتغير موازين القوى داخل النواة الصلبة
للمنظومة الحاكمة، تلك الموازين التي جعلت الباجي يوقن بنهاية مساره السياسي
(ومسار ابنه معه) بعد تحالف النهضة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
كان من الواضح أنّ مبدأ الشراكة بين "الشيخين" كان ضرورة براغماتية بالنسبة لرئيس الجمهورية، وأنه لا يتعامل معه من منطلق مبدئي أساسه الاعتراف بحقهم في المشاركة في إدارة الشأن العام
لقد التجأ الباجي قائد السبسي إلى اليسار الوظيفي، وهو
يوقن بأن التناقضات الأيديولوجية والمصلحية بين اليسار والنهضة ستدفع بالجبهة
الشعبية إلى نسيان خذلانه لها بتحالفه مع أعدائها في "الرجعية الدينية"،
كما كان يوقن أن اختلاف الغايات بينه وبين الجبهة لن يكون عائقا أمام تحالف "تكتيكي"
ومرحلي قد يتحول إلى تحالف "استراتيجي"، كما كان زمن المخلوع، في حال
نجاح مشروعهما لضرب النهضة وحليفها يوسف الشاهد. ولكن ما هي الغايات التي يلتقي
عندها الرئيس والجبهة الشعبية، والتي تبرر هذا الالتقاء الموضوعي بينهما؛ بصورة
جعلت الباجي قائد السبسي يحوّل قصر قرطاج إلى منصة إعلامية وواجهة سياسية لهيئة
الدفاع عن "الشهيدين" دون سائر شهداء الثورة وما سبقها أو لحقها؟
مصير المسار الديمقراطي
من الواضح أن التقاء الباجي بالجبهة لا تحكمه غاية
مفردة. إننا أمام "حرب وجودية" يشعر الرئيس فيها بخطر مؤكد على مستقبل
ابنه السياسي ومصالح العائلة من بعده، بينما تشعر الجبهة أن استمرار مسار الانتقال
الديمقراطي والاحتكام إلى الإرادة الشعبية سيزيد من قوة النهضة، وسيضعف بالضرورة
اليسار، خاصة بعد التقدم بمشروع لرفع العتبة الانتخابية إلى 5 في المئة عوض 3 في
المئة الحالية. ولا شك في أن القاعدة الانتخابية لليسار هي قاعدة محدودة، ولا تسمح
لليساريين إلا بأن يكونوا قوة نوعية لا ترتفع إلى مستوى الأغلبية القادرة على خدمة
مشروعها الخاص، وهو ما قد يفسر جزئيا تحول أغلب اليساريين إلى جماعة وظيفية في
خدمة مشروع الطغمة البرجوازية الحاكمة؛ مهما كانت واجهتها الحزبية قبل الثورة
وبعدها. فتواصل المسار الانتقال الديمقراطي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإرادة
الناخبين قد يؤذن بذهاب هذا الدور الموروث من زمن المخلوع، ذلك أنّ وجود النهضة
ومن ينتمي اليها من قوة بشرية سيغريان النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة إلى التخلي
تدريجيا عن خدمات اليسار الوظيفي، وهو ما قد يفسر إلى حد كبير هذا العداء اليساري المكين
للرجعية "الدينية" (ممثلة خاصة في حركة النهضة) دون وجود عداء يقابله - خارج
البيانات الانتخابية - للرجعية "البرجوازية" (أو حتى "للرجعية
الوهابية" التي هي أكبر حليف وممول لأعداء الحركات الإخوانية).
إننا أمام "حرب وجودية" يشعر الرئيس فيها بخطر مؤكد على مستقبل ابنه السياسي ومصالح العائلة من بعده، بينما تشعر الجبهة أن استمرار مسار الانتقال الديمقراطي والاحتكام إلى الإرادة الشعبية سيزيد من قوة النهضة