جاء قرار وزير الدفاع
الإسرائيلي أفغدور ليبرمان بالاستقالة من منصبه؛ ليسلط الضوء على
مبررات هذه الاستقالة التي جاءت في أعقاب مواجهة بين المقاومة في
غزة وبين الجيش الإسرائيلي. هذه المواجهة المفاجئة جاءت بعد أن اخترقت إسرائيل اتفاق التهدئة، والذي لم يجف الحبر الذي كتب به، بعملية أمنية لم يكشف النقاب عنها حتى هذه اللحظة، لتعود المواجهات مرة أخرى، رغم الاتفاق القاضي بالعودة إلى الالتزام بتفاهمات تهدئة حرب 2014. فالعقلية الإسرائيلية المتغطرسة والتنافس الحزبي بين الشركاء في الحكومة الإسرائيلية؛ كانا سببين رئيسين للقيام بهذه العملية الفاشلة.
شكّل فشل العملية الإسرائيلية بداية الطريق لتصفية الحسابات المؤجلة داخل الحكومة الإسرائيلية، والناتجة عن الخلافات حول رؤيتين داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن طريقة التعامل مع غزة، وفرض الهدوء المفقود على حدودها منذ شهر آذار/ مارس الماضي، أي منذ انطلاق مسيرات العودة.
التيار الأول الذي يقوده وزير الدفاع ليبرمان ووزير التعليم نفتالي بينيت؛ يرى أن الحل الأمثل مع غزة يجب أن يقوم على استمرار توجيه الضربات القوية لحماس وفصائل المقاومة في غزة، مع تشديد
الحصار لدفع الجمهور للثورة على
حماس وإسقاط سلطتها.
يقف في المقابل التيار الثاني بقيادة نتانياهو، برؤية مغايرة تقوم على أن استمرار حالة الضغط على غزة يولد الانفجار، ويدفع حماس إلى الدخول في مواجه شاملة بعد أن يكون ظهرها للحائط، وليس لديها ما تخسره. وهذه المواجهة لن تحسم بين عشية وضحاها، ولا سيما أن تجربة الموجهات المتكررة، والتي تخللتها ثلاثة حروب؛ كان آخرها حرب 2014 التي أكدت هذه النظرية، حين صمدت المقاومة 51 يوما أمام الحصار والغارات الإسرائيلية، إلى جانب الثمن الذي يمكن أن تتكبده إسرائيل من الجنود والعتاد.
بحسب التقديرات الإسرائيلية الأولية، فإن أي حرب تندلع في غزة ستكلف إسرائيل ما لا يقل عن 500 جندي، وأضعاف ذلك العدد من الجرحي، إلى جانب الخسائر في المدنيين، سواء في الأفراد أو في المنشآت الاقتصادية. وستدفع إسرائيل كل هذا الثمن من خسائر مادية وبشرية، دون أن يكون هناك أفق لنهاية المعركة، ودون أن تحقق إسرائيل هدفها باستعادة الأمن. وفي نفس الوقت، لن تسقط حماس إلا إذا قرر الجيش الإسرائيلي احتلال غزة، وهذا ما لا يقبله أحد في إسرائيل. فلا ليبرمان ولا نفتالي بينيت، وغيرهم ممن يحتجون على سياسة نتنياهو في غزة، غير مستعدين لأن يدخلوا غزة. ومن هنا جاء موقف نتنياهو الباحث عن مخرج لهذه المعضلة، من خلال التوصل إلى تهدئة تضمن عدم الانجرار إلى حرب شاملة في المقام الأول، وتوقف مسلسل المواجهات الذي لن ينتهي ولن يغير من قواعد اللعبة بشيء.
نتنياهو وعدد من وزراء الكابنيت لديهم قناعة تتوافق مع رؤية الجيش حول مسألة التعامل مع غزة. فقيادة الجيش، وعلى رأسها رئيس الأركان صاحب الخبرة في الشأن الأمني، تدرك المعادلة المعقدة، لذلك وجهت نصيحتها للمستوى السياسي أكثر من مرة بالتعجيل بتفكيك الحصار عن غزة ضمن اتفاق يضمن المصالح الأمنية الإسرائيلية ويبعد شبح المواجهة. لكن القادة السياسيين، شركاء نتنياهو في الحكومة الذين تلعب في رؤوسهم لعبة السياسة والمقاعد الانتخابية، لم يقبلوا بهذه المعادلة وحاولوا أكثر من مرة في دفع الجيش إلى الدخول في مواجهة لردع حماس.
قادة الجيش يدركون قواعد اللعبة جيدا، كما يدركون محدودية تأثير أي ضربة لغزة، مهما كان حجمها، على منع مواجهة مقبلة، لذلك خلصوا إلى نتيجة بأنه لن يكون هناك هدوء بدون اتفاق مع حماس وفصائل المقاومة في غزة، وعملوا طوال الوقت كقوة تكبح جماح السياسيين. لذلك، ففي الوقت الذي حسم فيه العسكريون موقفهم تجاه غزة، يقف السياسيون حائرين في خياراتهم، ومترددين حول الخيار الأفضل والنهج الأسلم لجلب الهدوء إلى غزة، ويتقاذفون التهم ويحملون بعضهم المسؤولية عن الفشل في إدارة المواجهة مع حماس، من دون أن يقدموا حلولا إبداعية سوى اللجوء إلى القوة التي جربت في الماضي.
نظرة سريعة للماضي القريب، فإن غزة كانت تذكرنا بانتفاضة الحجارة 1987، حين كان رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق إسحاق رابين يتمنى أن يستيقظ ويرى غزة قد ابتلعها البحر، ومن بعده رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق أرئيل شارون، عندما كان يرى أن أمن مستوطنات غزة كأمن تل أبيب ، ليقول: "أمن مستوطنة نتساريم يساوي أمن تل ابيب"، لكنه استسلم في النهاية للواقع، واضطر إلى الانسحاب من قطاع غزة من طرف واحد.
اليوم يسقط ليبرمان بعد الفشل الذي سبقه فيه كل من رابين وشارون؛ اللذين فكرا بحسم المعركة مع غزة بالقوة، وبعد أن سلم العسكريون بأن لا حل عسكريا لمعضلة غزة الأمنية إلا باتفاق، لكن السياسيين على اختلاف أيديولوجياتهم يقفون حائرين؛ من دون أن يقدم أحد منهم مخرج من ورطة غزة التي تحولت إلى معضلة سياسية!!