يوحي المعنى الظاهري لمفردَتَي العنوان بأن هناك تعرضاً بينهما، وأن دلالة الأولى مختلفة تماماً عن الثانية، فـ"التكنوقراطي" يُحيل على جدارة الخبرة، ومهارة التقنية، وكفاءة التخصص، في حين يدل مصطلح "السياسي" على مجل
السياسة بكل تشعباتها، حيث الأولوية لقدرة التدبير، وأهلية إدارة العلاقات والأزمات، وحسّ تحمل المسؤولية. فهل يُفهم من هذا أن "التكنوقراطي" (Technocrate) بعيد عن ممارسة السياسة، وأن مجال نشاطه محصور في الاجتهاد في إيجاد الحلول الخلاقة والناجعة للقضايا والاملفات المطروحة عليه، وأنه تاليا منزّه عن أية مسؤولية ومحاسبة، على نقيض "السياسي"، الذي يُعتبر التقييم المُفضي إلى المحاسبة جوهر نشاطه، ومناط دوره؟
قصدي من طرح العلاقة بين "التكنوقراطي" و"السياسي"؛ فهم الحدود الفاصلة بين المفردتين في التداول العام، وفي الخطابات السياسية، في الكثير من الدول، وعلى وجه التحديد في منطقتنا العربية، حيث يتم اللجوء بشكل مكثف إلى فئة "التكنوقراط"، كلما اشتدت الأزمات وتفاقمت آثارها، وكلما أراد الفاعلون السياسيون (الحكام) البحث عن مخارج وبدائل لضعف فعالية الإنجاز أو انعدامها.
ففي المغرب على سبيل المثال، حصل بشكل يكاد يكون مكثفا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ اللجوء إلى فئة "التكنوقراط" في تشكيل الحكومات المتعاقبة، وكثيرا ما كان يُختار رؤساء الوزراء من هذه الفئة، تحت ذريعة الكفاءة، و"الاستقلالية والتجرد"، وكفاءة التخصص، والقدرة على التسيير والإدارة.. وفي دول أخرى غالبا ما كان يطلق على هذا الصنف من المسؤولين "حكومات كفاءات وطنية"، تمييزا لها عن الحكومات الحزبية أو السياسية. والحقيقة أنه ليس عيباً ولا ضرر أن يتولى "تكنوقراطيون" مسؤولية إدارة شؤون بلادهم، ولربما يكون تخصصهم مفتاحا حقيقيا للنجاح في ما تسند إليهم من مهام ومسؤوليات. وقد ثبت هذا في العديد من دول العالم، لا سيما بالنسبة لقطاعات ذات بُعد استراتيجي، كما هو حال التعليم والصحة والاقتصاد. بيد أن نجاح "التكنوقراطي" مرتبط أشد الارتباط بمتغيرات لها صلة عميقة بالبيئة العامة لبلده، وبمدى وجود أو عدم وجود مشروع مجتمعي واضح، ومتوافق حوله من قبل كافة مكونات البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
فحين تتوفر البلاد على مشروع مجتمعي عام، واضح ومتوافق حوله، يروم خلق أسس النهضة والتقدم، ويدعو كافة أبنائه للانخراط في إنجاز خطواته، وإنجاح أهدافه الكبرى، يمكن أن يكون لفئة "التقنوقراط" مكانة محورية في بناء هذا المشروع؛ لأن كفاءتهم التخصصية، وقدراتهم على الاجتهاد الخلاق، وجدارتهم في تحقيق النتائج المنشودة بفعالية تُشكل كلها قيماً مضافة لمشروع البلد وحظوظ تحقيق نجاحه. أما إذا كان هذا المشروع غائيا، أو لا يحظى بالتوافق الوطني، فإن الاستنجاد بالتكنوقراط لن يُعطي أكلَهُ، وسيتحول هؤلاء إلى مجرد أدوات للتهرب من المسؤولية والمحاسبة، ودون شك لن تفضي كفاءاتهم إلى نتائج حقيقية على مستوى الإنجاز والفعالية.
ومع ذلك، تبين الدراسات الحديثة لظاهرة "التكنوقراط" أن ثمة حاجة ملحة لإعادة النظر في الفهم السائد حول هذه الفئة الاجتماعية، في ضوء التغيرات التي شهدها العالم. فمنذ صدور كتاب "Luc Rouban" الموسوم بـ"نهاية التكنوقراط" (1998)، انتهى التعريف الحصري لهذه الفئة أو النخبة الاجتماعية، وأصبح تحديد معناها مرتبطا بالمجال المخوّل لها، أو الوظيفة المُسندة إليها.. لذلك، تستلزم المقاربة السليمة لمعنى "التكنوقراط" أو "التكنوقراطية" النظر إلى قطعة الشطرنج التي يتواجد في قلبها هؤلاء، والأدوار التي أسندت لهم في هذه الرقعة.. وللتدليل على رجاحة المعنى الجديد للتكنوقراط، يتم اللجوء المتواتِر للدول للاستعانة بهم، على الرغم من اختلاف منظوماتها الأيديولوجية والحضارية. حصل هذا في فرنسا وفي روسيا، وفي الصين ما بعد "ماو"، ويحصل بكثافة في أوروبا مع الأزمة المالية لعام 2008.
أما في الحالة المغربية، فالراجح أن ثمة حاجة ملحة لتجديد نظرتنا لللتكنوقراط والتكنوقراطية، كي نخرج من دائرة الفهم غير السليم ، حتى لا نقول القِدحي، لهذه الفئة من المجتمع، التي قطعت مسارات علمية وتعليمية ناجحة، والتي تستفيد منها البلاد قطعا، إن وجدت سياقاً سياسياً واجتماعيا يُقدر كفاءتها، ويحترم اجتهاداتها، ويعزز سدادَ رؤاها.
يتعلق المتطلب الأول للتجديد بتغيير النخب السياسية، والحزبية تحديدا، ثقافتها بشكل يُقنِعتها بالانفتاح على الكفاءات المؤهلة ا للمساهمة باقتدار في استثمار مهاراتها لصياغة سياسات عمومية ناجعة وفعالة.. ستقدر بعض الأحزاب السياسية في بلادنا، إن هي قطعت مع الولاء الحزبي الضيق، وفتحت الباب لكفاءاتها الداخلية، أو حتى من خارجها، أن تشارك باستحقاق في إنجاز الإصلاحات الكبرى في البلاد.
أما المتطلب الثاني، فيخص بنية الدولة والسلطة ذاتها، التي هي الأخرى مطالبة بإعادة صياغة علاقتها بـ"التكنوقراط" و"التكنوقراطية" إجمالاً، كي تًصبح متوازنةَ، ومُثمِرة، وكي لا يظل التكنوقراطي هو ذالك الخبير، المحايد، الطيّع في أعلب الأحيان، الذي نستعين به لثقتنا في كفاءته، وفي سريرته وولائه.. إن الصورتين معا (أي صورة الأحزاب والدولة لـ"التكنوقراط" و"التكنوقراطية") لا تسمحان بجعل هذه النخبة العالِمة من المجتمع فعالة في استثمار ما راكمت من معارف وخبرات في الاتجاه الإيجابي.. علما أن " التكنوقراطي" نفسه ليس منزهاً عن الخطأ.. إنه من فئة البشر الخطاءون بطبيعتهم، وأنه أيضا حيوان سياسي، بتعريف أرسطو، وإن لم يكن متحزباً.. إنه مواطن ملزم، بالضرورة، بتوظيف كفاءته لخدمة بلاده.