هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
جريمة التخلص من جمال خاشقجي ليست جديدة، فالقتل السياسي قديم، والبشاعة في التنفيذ قديمة، والإنكار الأَوَّلي قديم، وفي حالة الافتضاح يشمل القديم أيضاً أساليب المعالجات السرية والمساومات وطرح التسويات وإبرام الصفقات في الكواليس.. مع ذلك، فإن جريمة خاشقجي كاشفة لمنجزات عصرية ومتغيرات "انقلابية"؛ تحتاج إلى وقفة متأنية لاستخلاص الملامح الجديدة التي يمكن الإمساك بها والبناء عليها.
(2)
الملمح الأول يخص المنجزات التكنولوجية الحديثة، فهي البطل الرئيسي في كشف الجريمة وفي جمع الأدلة، بحيث يصعب الحديث عن جريمة بدون الحديث عن تقنيات الرصد والمراقبة والتنصت والتسجيل عن بعد، وكذلك بدون التطور المذهل في الأرشفة الالكترونية للمواد والصور وحركة المطارات، وسهولة البحث في جبال المواد الهائلة التي يتم تخزينها. وهذا موضوع شيق ومليء بالتفاصيل والمفاهيم التي تحتاج لمقال موسع يعيد النظر في موقفنا المعادي لأجهزة المراقبة وبرامج التنصت، فالجريمة دفعتنا لحالة من التعاطف مع التسجيلات (بصرف النظر عن مشروعيتها) إذا استطعنا من خلالها التوصل للجناة وعدم إفلاتهم من العقاب، وهو ما يدعونا لمناقشة القضية بهدف توسيع الفائدة لصالح عالم أكثر أمناً وعدلاً وشفافية أيضاً، بحيث تتحول الرقابة من سيف يهدد أمن الفرد إلى أداة لحمايته، وهذا موضوع مقالي المقبل الذي يتناول الصراع الممتد من "بروميثيوس" إلى "الإله بريزم"، مرورا بعالم جورج أورويل الكابوسي الذي كانت فيه الرقابة حقاً حصريا للأخ الكبير.
(3)
الملمح الثاني، يخص الدور الذي لعبته التسريبات (غير الرسمية) لتكريس الجريمة كخبر من الدرجة الأولى في العالم كله لمدة طويلة. والملاحظ أن هذا الحضور ارتكز على صحف شعبية من الدرجة الثانية والثالثة، حيث تقدمت صحف تركية/ مثل "صباح" و"يني شفق" (الفجر الجديد) على كبريات الصحف والوكالات الثقيلة والفضائيات التي لعبت "الدور الثاني" في النشر والترويج والتأثير. وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي والتصريحات مجهولة المصدر في إعطاء الجريمة حجمها الكوني الضاغط، بحيث تساوت مع الأحداث الكبرى القليلة التي كانت من قبل حكراً على الحروب وعلى مصائب الدول، لا الأفراد.
وقد استوقفتني "الطريقة المقلوبة" لاستخدام الإعلام، فبدلا من انتظار البيانات الرسمية وتصريحات المسؤولين، تصدرت الأخبار والتحليلات والمقالات، وتوارى المسؤولون هرباً من المسؤولية وانتظاراً لما سوف تسفر عنه الأوضاع المعقدة؛ لأن أي تصريح متعجل قد يؤدي إلى تكلفة باهظة في علاج الأزمة. وهكذا انتصر الأداء الشعبي على الأداء السلطوي الرسمي.. الكل يريد معرفة حدود المعلومات المتوفرة لدى الأطراف الأخرى، ويريد أن يتهرب وأن يتودد وأن يتوعد وأن يتجنب، وأن يهدد أيضا، وفي نفس الوقت يريد ألا يثبت عليه شيء من ذلك. وهذا يعني ضرورة توصيل الرسائل بطرق "شعبية" أو عبر شخصيات إعلامية، بحيث يمكن نفي كل ذلك في وقت آخر إذا اقتضت الضرورة، لهذا خرج الرئيس تركي ليطفئ النيران بعد ساعات من إعلان قتل خاشقجي ببشاعة، ويتحدث عن احتمالية "نهاية سعيدة" لاختفاء خاشقجي. وفي الوقت الذي صمت فيه وزير الخارجية السعودي تماماً، يبادر إعلامي قريب من النظام السعودي بتوجيه رسائل خشنة ضد كل من يهدد المملكة، وبعد ساعات يتم التقليل من الرسائل التي أعلنها "الدخيل" في مقال ديماغوجي، قبل أن يصدر بيان إنشائي بعد ذلك لملء الفراغ، مع ارتباك شديد في منظومة الإعلام الموالية للسعودية.
وحتى قبل ساعات من اعتراف الرياض بمقتل خاشقجي، كانت الجهود كلها ذات طابع شعبي، وكانت "أحاديث الدعم" تمشي في خط واحد يتحدث عن المؤامرة التي تدبرها قوى شريرة مثل قطر وتركيا والإخوان لأرض الحرمين وولي عهدها فارس المستقبل الطموح الملهم (حسب توصيفات الشيخ السديس). فالأمير القوي الواثق من نفسه تجرأ سريعاً وصرح بالموافقة لتركيا على تفتيش قنصلية بلاده في إسطنبول، لكن التصريح الوحيد المبكر ظل معلقاً لأسبوعين بلا تنفيذ، حتى أجبرته التسريبات الإعلامية و"مشاروات الكواليس" على "اعتراف جراحي" يتم ترميمه ساعة بعد الأخرى؛ ليتلاءم مع رواية رسمية لم يعلن عنها الجانب التركي حتى الآن، بالرغم من أن أطرافاً مؤثرة في عدة دول كبرى قد تعرفت على جوانب من الأدلة الدامغة التي تتريث أنقرة في إعلانها بشكلها النهائي.
هذا يعني أن المعلومات التي يعرفها الرأي العام العالمي عن القضية كلها من صنع الإعلام أولاً، وأن البيانات الرسمية تقتصر على الاعتراف السعودي وبيان النائب العام سعود المعجب وقائمة المتهمين الثمانية عشر.
(4)
حتى الآن، لا زلت أعتبر أن ما حدث يندرج تحت مصطلح "الإعلام المقلوب"؛ لأن تأخر المسؤولين وراء الصحف والجمهور لا يشير إلى اقتناع الحكام بتنحية القوة الغاشمة لصالح "القوة الناعمة"، ولا يعبر عن تنازل طوعي من أباطرة السياسة لصالح الاتجاه الشعبي، لكنها رغبة في توظيف الإعلام والزخم الجماهيري من أجل تصنيع "وضع" يسمح بمكاسب سياسية واقتصادية وأمنية يستفيد منها الطرف الذي يتمكن من توصيل الرسائل المطلوبة للتفاوض، ثم يستطيع بعد ذلك التدخل بالمونتاج، فيحذف ويضيف من كلام الإعلام بما يتسق مع الرواية النهائية التي تتمخض عنها المشاورات والمفاوضات بين الأطراف المعنية، وفي القلب منها أنقرة الرياض وواشنطن.
(5)
أعجبني دور الإعلام في قضية خاشقجي؛ لأن صوت الضمير ارتفع فوق صوت القوة والبطش، ولأن صوت الناس ارتفع فوق صوت الحكام، ولأن الضحية انتصرت على الجلاد، ولأن التنصت والمراقبة لم يكونا ضد المواطن الفرد، بل صارت وسيلة ضغط وتحكم لإدانة الطغاة والرقباء ورجال الاستخبارات. وأتمنى لو يستمر الإعلام متمسكا بأكبر قدر من هذا الدور، ولا ينتكس فيعود أداة في يد الأنظمة.. أتمنى ألا نهدر كل الجوانب الإيجابية التي واكبت الكشف عن جريمة خاشقجي، وفي مقدمة هذا الإيجابيات الحفاظ على دور إعلامي نزيه منحاز للناس، يصون حياة البسطاء، ويكشف القمع والجريمة والفساد، ويدافع عن الحريات، ويقاتل من أجل تحقيق العدالة.
(6)
يبقى توضيح أخير عن مصطلح "الإعلام المقلوب"، والذي استخدمته في هذا المقال باعتباره: الإعلام الذي يسبق فيه الصحفي تصريحات السياسي الكاذب، وتتجاوز فيه الفضائيات وسائل النشر كليشيهات وتحفظات المسؤولين الرسميين، وباعتباره أيضا الإعلام الذي يبادر بالبحث والكشف والتحريض ولا ينتظر كلمة من مسؤول؛ لأنه إعلام إنساني حي الضمير، وحريص على فضح لغة الدواوين الخشبية التي تزيف الحقائق بشعارات خادعة. ولهذا، فإن "الإعلام المقلوب" بالنسبة لي هو "الإعلام المطلوب"، وهو الإعلام الصحيح (المعدول)؛ لأن إعلام الأنظمة هو المقلوب منذ نشأته، فالإعلام يجب أن يكون للناس لا للحكام.
[email protected]