ربما كان الخطاب المباشر الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أحد أهم الخطابات التي ألقيت طوال هذا العام، سواء من جهة عدد المتابعين أو من جهة الرهانات التي كان عليه مواجهتها بمنطق "رجل الدولة". فقد كان سقف الانتظارات مرتفعا للغاية، خاصة وأن الرئيس التركي كان قد وعد بكشف الحقيقة كاملة في قضية مقتل الصحفي السعودي المرحوم جمال خاشقجي. ولعل ارتفاع سقف الانتظارات كان راجعا أساسا إلى حجم التسريبات المنسوبة إلى الجهات الأمنية والقضائية التركية، وهي تسريبات كان الرئيس أردوغان مطالبا بتأكيدها أو بتكملتها بمعطيات أخرى أكثر أهمية وأقدر على بيان الحقيقة"كاملة". فهل خالف الرئيس أردوغان ما كان متوقعا منه؟ أم إنه جاء بالحقيقة "كاملة" من موقعه باعتباره سياسيا، لا باعتباره لجنة تحقيق أو جهة اتهام، كما يريده البعض؟
رغم أن أردوغان لم يعط معلومات جديدة أو صادمة في ملف
اغتيال خاشقجي، بل رغم إنه أسقط أغلب التسريبات المتعلقة بطريقة القتل البشعة، فإنه قد بعث برسائل مهمة إلى أكثر من طرف، وهي رسائل فهمتها الأطراف المعنية حق فهمها، وهو ما جعل لخطابه تداعيات كبيرة جعلت المشككين فيه، بل من يتهمونه بالسعي إلى"عقد صفقة" مع
السعودية، يقعون في التسلل مرة أخرى-. لقد وضع الرئيس التركي (بكلمات معدودات) السعودية وحلفاءها في موضع حرج جدا، وترك القضية مفتوحة على نتائج لم يرد أردوغان أن تُرمى بالانحياز أو بالتسييس. لقد تعامل الرئيس التركي مع القضية من منطلق يمكن أن نسميه بالموقع "المبدئي- البراغماتي"، أي إنه حافظ على وعده بالكشف عن الحقيقة (أو المفاصل العامة لسردية لاحقة تبني خطاب "الحقيقة")، ولكنه لم ينس أنه يتحرك في حقل مليء بالألغام، وأن كل تجاوز لصلاحيات القضاء أو استباق لنتائجه النهائية قد ينسف القضية من أساسها،سياسيا وأخلاقيا وقانونيا.
لقد قال الرئيس التركي حرفيا إنه يقدم بعض المعلومات وليس كلها، أي أن لديه معلومات أخرى يمتلكها المدعي العام والسلطات الأمنية، ولكنه لن يذكرها في خطابه. ويمكننا أن نفترض أن أسباب "الحجب" أو تأجيل الكشف ترتبط بمسار التحقيق التركي الداخلي، وربما ترتبط برغبة
تركيا في أن تكون تلك المعلومات بين يدي جهة تحقيق دولية محايدة؛ حتى لا تُتهم تركيا بتصفية حساباتها مع المحور السعودي- الإماراتي المشتبه في تورطه في المحاولة الانقلابية الفاشلة على أردوغان.
لو أردنا قراءة خطاب أردوغان وفهم تداعياته الهامة على المستويَين الإقليمي والدولي، فإننا نستطيع الارتكاز على النقاط التالية:
1- لعل أهم ما ورد في خطاب الرئيس التركي هو نسف الرواية الرسمية السعودية، بل إحراجها، اعتمادا على أقوالها ذاتها، خاصة فيما يتعلق بمصير الجثة. وهو بذلك يجعلها مضطرة إما لتكذيب الرواية التركية، فتخرج تركيا المزيد من التسريبات أو حتى من المعلومات الرسمية، وإما مضطرة للإقرار بالرواية التركية، وتفقد بذلك ما تبقي لها من مصداقية في المستويين الإقليمي والدولي. ولا شك في أن المماطلة السعودية وعدم تعاونها المقصود مع السلطات التركية سيزيد من مصداقية التسريبات التركية، بل سيجعل أية رواية رسمية تركية قادمة مقبولة من الرأي العام العالمي ومن القوى الدولية.
2- لم يكن أردوغان (بوصفه رئيس دولة) يستطيع توجيه أي اتهام صريح لأي طرف في السلطة السعودية؛ ما دام النائب العام التركي لم يغلق الملف، ولذلك تحدث الرئيس التركي بمنطق رجل السياسة، دون أن يتدخل في وظيفة القضاء؛ حتى لا يُتهم بتسييس القضية وتصفية حساباته مع السلطات السعودية، أو يُتهم بإقصاء المجتمع الدولي من عملية التحقيق وما ستسفر عنه من نتائج. وقد ظهرت نتائج هذه السياسة من خلال ردود الفعل الدولية (خاصة الأمريكية والأروبية)؛ التي لم تستطع إلى حد هذه اللحظة التشكيك في مهنية السلطات القضائية التركية ولا في حيادية السلطات السياسية.
3- لقد طالب أردوغان بلجنة تحقيق دولية، وهذا تلميح إلى عدم ثقته في التحقيقات السعودية، كما طالب السعودية بمحاسبة المتهمين في تركيا. وهو في خطابه "يقترح" فقط، ولكنه يستطيع في أية لحظة تحويل الاقتراح إلى طلب رسمي. وقد ساند البرلمان الأروبي هذا المقترح، وطالب بـ"مشروع قانون" لتكوين لجنة تحقيق دولية، كما طالب السلطات السعودية بالتعاون مع تركيا، وعبّر عن ثقته في السلطات التركية. ولا شك أنّ هذا المشروع سيزيد من الضغط الدولي على السعودية، وسيكون عليها تقديم إجابة رسمية على هذا الطلب التركي المسنود بالاتحاد الأوروبي. وفي صورة رفض السعودية، فإن الكلمة الأخيرة في هذه القضية ستكون للنائب العام التركي في مرحلة أولى، وربما لمحكمة دولية خاصة في مرحلة ثانية.
4- لقد توجّه أردوغان في خطابه الى الملك سلمان، ولم يذكر ولي عهده المشتبه في تورطه في الجريمة. وهذا خيار سياسي جيد لأنه يزيد من الضغط على الملك، ويحفر هوّة بين رأسي السلطة في المملكة. فالملك غير متهم في القضية، ولكن عليه أن يتعاون مع الطرف التركي مهما كان المسؤول عن العملية. ولعل من أهم تداعيات هذه الاستراتيجية التركية ذلك التحول الكبير في موقف الرئيس ترامب مباشرة بعد خطاب الرئيس أردوغان. ففي مقابلة مع صحيفة " وول ستريت جورنال"، قال الرئيس الأمريكي حرفيا: "إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يدير الأمور في المملكة بشكل أكبر في هذه المرحلة، وإن كان من متورط في مقتل خاشقجي؛ فسيكون هو". كما وافق ترامب الرئيس التركي في تبرئة الملك سلمان من القضية، وزاد على ذلك بأن أوكل للكونجرس (الذي لا تخفى مواقفه السلبية من محمد بن سلمان) مهمة تحديد العقوبات الضرورية على المملكة.
5- لقد لمّح الرئيس التركي من طرف خفي إلى أنّ الملك السعودي ما زال مركز السلطة في المملكة، ولذلك توجه إليه بالخطاب دون ولي عهده محمد. وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر واحد: فهو ينفي ما يروّج من أنه مغيّب أو عاجز، وبأنه قادر على تغيير توازنات السلطة في الداخل السعودي وفي السياسات الخارجية. وهو بذلك إما يقول الحقيقة (فيحرج الملك سلمان ويظهره في صورة العاجز عن معاقبة ابنه)، وإما أنه يعلم أن الملك غير قادر على تغيير أي شيء، فيكون كلامه رسالة مشفرة للقوى الدولية (خاصة الأمريكان) بضرورة التدخل لفرض التغيير في أعلى هرم السلطة السعودية.
6- ذكر الرئيس التركي تورط أطراف دولية في قضية اغتيال المرحوم جمال خاشقجي، ولكنه لم يسمّها، وهو بذلك "يُدوّل" القضية"؛ لأنه كشف أن السعودية لم تتحرك بمفردها، بل تحركت ضمن "محور إقليمي" معروف، ويجب على المجتمع الدولي(وليس تركيا فقط) كشفه في إطار لجنة تحقيق دولية. فقضية خاشقجي هي قضية رأي عام دولي، والمتهم فيها ليس السعودية فحسب، بل قوى إقليمية أخرى. فكأن الرئيس التركي بذلك يرفض تحويل القضية إلى قضية ثنائية (بين السعوديبة وتركيا)ـ ويريد أن يتعامل المجتمع الدولي معها باعتبارها اعتداء محور كامل على السيادة التركية وعلى الشهيد جمال خاشقجي.
ختاما، يمكننا القول بأنّ الرئيس أردوغان تحدث باعتباره رئيس دولة وليس باعتباره محققا أو قاضيا. وقد كان مصيبا في ترك القضية مفتوحة، وهو ما يعني أن نتيجتها النهائية ستكون مربوطة بنتائج تحقيقات النائب العام التركي من ناحية أولى، وبتطور الموقف السعودي والمواقف الدولية من جهة ثانية. ولا شك في أن ما صدر من مواقف من الرئيس ترامب (الحليف الأقوى لابن سلمان) ومن الاتحاد الأوروبي ستزيد من إضعاف موقف ولي العهد، وقد تدفع تلك المواقف بالملك سلمان إلى تنحية ولي عهده وإرساء توازنات جديدة داخل الأسرة المالكة، ولكن من المستبعد في المدى المنظور أن تغير قضية جمال خاشقجي من طبيعة النظام السعودي أو تدفع به نحو الملكية الدستورية.