هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(تمهيد)
بينما كان الرجل يتضور جوعا، ويجر زوجته من شعرها في الشارع أمام الجيران، الذين يدوسون بعضهم أثناء التدافع نحو عربة صفراء توزع بعض الوجبات و"الكراتين الغذائية".. كان الشيخ الكبير يدعو للتراحم، والرئيس الداعية يبتسم أمام الكاميرا ويحث شعبه على الحب: حبوا بعض، ما حدش هيقدر عليكم يا مصريين لو بقيتوا على قلب رجل واحد.. (ويضم قبضتيه معا ويضيف): لو بقيتوا كده (ينطقها كته).
(1)
لم يكن قابيل يعرف كلمة "الحب" عندما هوى على رأس شقيقه بعظمة حمار، لسبب قد يكون الغيرة أو الحسد أو الطمع أو حقه في الدفاع عن تصوراته الذاتية، أو أشياء أخرى، لكن هذه الجريمة الرائدة تؤكد بشكل ما أن الحب ولد قبل الحرب، بل ربما كان الحب هو الذريعة الأولى للحرب.. كل حرب.
(2)
لا أعرف اللغة التي كان يخوض بها قابيل صراعه، ولا طبيعة المشاعر التي فرضت نفسها عليه، ورجحت انتصار الجزء الأسود من غرائزه، ولا أرغب في مناقشة أي الروايات أدق في تفاصيلها؛ لأن القيمة في قصص الأولين (من وجهة نظري المحدودة) تقوم على استخلاص العبرة، وليس إعادة خوض الصراع. عن طريق تشجع طرف وإدانة الآخر، فالعبرة (كما في الدراما هذه الأيام) تفترض وجود ممثل للخير وممثل للشر، لكي نُظهر من خلال أدوارهما: لماذا ينبغي أن نتبع الخير ونبتعد عن الشر.
(3)
إذا حاولنا أن نفسر القصة القديمة بخيال سيناريست معاصر، فقد نتوقف أمام فكرة "الحب"، باعتبارها الذريعة الإنسانية الأقدم، والأكثر استمرارية، والأعظم رواجا: قابيل كان يحب أخته لدرجة قتل من يسلبها منه، وهي قصة متكررة، فعلها.. وما زال يفعلها الملايين على مر العصور، ثم قد يتوغل السيناريست في اعماق أبعد، ويتحدث عن تحول الحب إلى كراهية وحقد بسبب التفضيل والتمييز من جانب سلطات أعلى، وهو حب غير دستوري بلغة عصرنا؛ لأنه ينأى عن المساواة، ويفتح باب الحقد والمقارنات البغيضة، التي تكبر في الدماغ وتضخ الأدرينالين في العروق حتى تتحول إلى بركان نار، لا بد له تحت الضغط أن ينفجر.
(4)
من هذه الظروف القهرية التي تفرضها "ضرورة مصطنعة"، بدأ "القابيليون" عملية تبرير القتل.. باسم "الحب": أنا أحب مصر، وأنت تحب مصر، وأحمد موسى ولميس جابر ومصطفى بكري وعبد العال الزبال؛ يرددون كل لحظة أنهم يحبون مصر.. مرسي يحب مصر، والسيسي يحب مصر، والراقصة الأجنبية التي تلف جسدها العاري بالعلم تعبر عن عظيم حبها لمصر.. بل يحبها الجندي وقاتله، الثاني يقول إنه "مجاهد" يقتل الأول حباً في الله ودولة العدل.. فالجندي يحرس الطاغوت ضد مصلحة البلاد والعباد، بينما يقول الأول إنه "خير أجناد الأرض" ويقتaل الثاني حباً في الله والوطن.. ويصفه بأنه "إرهابي" يخالف الله ويعيث فسادا في الأرض.. أيها الحب كم من البلاوي تتستر خلف اسمك..!
(5)
أوعى دماغك يتلخبط، وأوعى تتخض من الأمثلة التاريخية والميثيوليوجية والافتراضات الدرامية، دعك من كل هذه التفاصيل ولا تدخل المتاهة، انظر للبحر وأنت جالس على الشاطئ باسترخاء، واسأل نفسك دون أن تتعرض لمخاطر الصراع مع أسماك القرش: كيف إذن صار الحب وقوداً للحرب، ودافعاً مشروعاً للقتل؟.. ألم يكن الحب (والمفروض أنه لا يزال) متعة عظيمة، وراحة للبال وللنفس، وسعادة تجعل الحياة نعيما؟.. ما الذي إذن استخرج من الحب الجميل كل هذه الويلات؟
(6)
لا تغلق صفحة المقال وأنت تغني: حب إيه اللي انت جاي تقول عليه؟ ولا تشطح بعيدا وتسأل هل كان آدم يحب حواء، لدرجة الوقوع في المحظور تحت ضغط ذلك الحب؟ ولا تشغل بالك هل قتل قابيل أخاه حباً أم كرهاً، فكّر معايا في الحرب أيضاً، فكر في المصطلحات التي ترافقنا بإخلاص كأصدقاء السوء المتفرغين، مثلا: عنق الزجاجة، والنفق المظلم، والأزمة، والأشلاء والخرابة، والمخاطر الجسيمة التي تهدد أمننا القومي، وحروب سيناء الجديدة من "نسر-1" إلى العملية 2018: كيف استطاع الأوغاد أن يوظفوا الحب لشن كل هذه الحروب، ونحت هذه المصطلحات الفوبيوية المحبطة لهمة الناس؟ وكيف يواصل الناس حياتهم تحت حكم سلطة تقصفه كل صباح بقنابل الغلاء والقهر والظلم والفساد والغباء، ثم يصدق حديثها عن الحب والنماء والإصلاح الجريء؟!
(7)
اجتمع فرويد فرويد مع ليفي اشتراوس على تفسير وجود طقس الأعياد في المجتمعات البشرية كافة، وقالوا إن كل عيد هو بالأساس احتفال بذكرى كسر محظور ما، فمثلا عيد الحصاد يكسر محظور الجوع والشح، فهو يعني أن النبات لم يعد أسيرا للأرض؛ يستعبد الفلاح في خدمته بالري والرعاية، لكنه تحول إلى غذاء يمكن تخزينه ضد المجاعات والفقر، وإذا اقتربنا من أعيادنا أكثر فإن عيد الأضحى هو كسر لمحظور القتل، والاحتفال بقيمة الفداء والتضحية، وعيد الفطر هو كسر محظور الجوع، والاحتفال بالطعام قرين الحياة، وعيد النصر يعني كسر حالة الهزيمة والاحتفال بالانتصار.. وعيد الثورة يعني كسر مراحل الظلم والقهر، والاحتفال بانتصار قيم العيش والحرية والكرامة والعدل.... إلخ.
(8)
ما لا أفهمه في بلادنا (وفي دول الظلم أينما كانت): لماذا تتكاثر الأعياد التي تدعونا للاحتفال بالخير والنماء والسلام والنصر والوحدة والحب، بينما يتواصل القتل والظلم والجوع والفقر والقبح والغش، والحقد.. إلخ؟
لا شك أن في الأمر خدعة، وحتى لا أفسد عليكم الاستعداد للاحتفال بعيد التضحية، أذكركم بأن تتعلموا معنى الفداء.
كل عام وأنتم أهل للحب، والتضحية والحرب لو احتاج الحب والشرف، واحتاجت الحرية والكرامة لحماية واجبة.
(تمهيد آخر)
كنت أخطط لاستكمال سلسلة مقالات "المضيق"، لكن الأعياد عادة تقطع البرامج العادية، لذلك توقفت احتراما للعيد، وتهيئة لاستقباله بما يليق. والعيد الذي أقصده ليس عيد الأضحى المبارك فقط، لكن كسر محظور الصمت الكبير عند جماعة الإخوان، وإطلاقهم لأول مرة.. مبادرة تدعو فيها الجميع للتسامي إلى "كلمة سواء" بهدف الخروج من "النفق المظلم"، والنفق المظام كما تعلمون ليس بعيدا عن جوهر مقالات "المضيق"، بل هو المضيق في أحلك ساعاته، لذلك وجب التريث للتفكر والتدبر والاستعداد، وبعد العيد بأمر الله نواصل السير في المضيق المحاصر بالوحوش والشياطين.
[email protected]