هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كرر غسان سلامة في أكثر من مناسبة القول بأنه استهل عمله رئيسا لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، ليكون بخدمة الليبيين وليس بديلا عنهم، وفق تغريدة له. والعبارة بهذه الصيغة، وفي واقع معقد كالواقع الليبي فهي جدلية بامتياز.
ما من شك أن كلام سلامة دبلوماسي، ولا قيمة له بهذا المضمون عند شريحة واسعة من الليبيين.
وأتفهَّم أنه من الضروري أن يؤكد ممثل البعثة الأممية على الحيادية التامة لمنظمته، ويشدد على أن الأمم المتحدة لن تفرض حلا أو توجُّها معين على الليبيين لإنهاء الانقسام.
لكن، وبالنظر إلى مستوى التعقيد في الأزمة الليبية، الذي عنوانه تعنت أطراف النزاع وإصرارهم على تفسيرات خاصة بالاتفاق السياسي، فإن ذلك يتطلب ضغوطا لا يمكن إلا أن تكون من الخارج، وبموافقة الأمم المتحدة علانية أو سرا.
مراقبة المشهد الليبي تجعلنا نقول إن معظم الليبيين لا يدققون -وقد وصل الحال إلى ما وصل إليه من ضنك- في مسألة الحيادية كثيرا، فالحياد ورفض التدخل في وضع يصل انحداره إلى مستوى قريب من القاع، معدوم القيمة بالنسبة للمواطن المطحون.
رأينا كيف أن شخصيات سياسية وعسكرية أطلقت تصريحات مباشرة بدعمها التدخل السافر لدول دورها في ليبيا محل خلاف كبير، ولم تواجه هذه التصريحات بموجة غضب من أنصارهم الكثر، ولم تغير من مكانتهم عند مؤيديهم، بل دافع عنها كثيرون باستماتة.
الدعم الخارجي الهائل الذي تلقاه حفتر لم يكن محل خلاف بين أنصار الكرامة، فيما لم يشكل الدعم لجبهة المؤتمر، ومن جاء بعده بعد الانقسام السياسي، قلقا لأنصار هذا المعسكر.
والمنطلق عند هؤلاء وهؤلاء، أنهم الشرعيون وعلى حق، وأصحاب الحق يحتاجون للدعم ويقبلونه مادام خطر ومفسدة تغلب الطرف الآخر تفوق في نظرهم خطر ومفسدة الاستعانة بالرديف الخارجي.
والسؤال المهم، هل التطور النسبي الذي وقع خلال الأشهر القليلة الماضية في الملف السياسي والأمني كان يمكن أن يقع لولا الضغوط الدولية؟!
هل كان من الممكن تحقيق التطور في المجال الأمني في العاصمة طرابلس وبعض المدن المجاورة دون ضغوط مباشرة من قبل قوى غربية فاعلة؟!
هل كان ممكنا كبح جماح حفتر ودفعه للتخلي عن مسار الحرب، والقبول بالحل السياسي دون دخول عواصم غربية مهمة على الخط؟!
إذا، الواقع المأزوم الذي نواجهه والذي ساهم في الوصول إليه أطراف ليبية مستعينة بداعمين خارجيين، لا يمكن أن يتجه إلى الاستقرار دون مساعدة من الخارج.
والمطلوب جهد نخبوي مؤثر يساعد الليبيين على الارتقاء بمستوى وعيهم فيما يتعلق بالموقف من الدور الخارجي في حل النزاع من خلال تأطير صحيح لهذا الدور.
وأعتقد أن الدور الخارجي الذي يمكن أن يحقق المصلحة العامة ينحصر في:
- وقف الحروب ومنع الانحدار إلى مزيد من الفوضى الأمنية.
- دفع الأطراف المتناحرة إلى القبول بتسوية تحقق الاستقرار.
- رفع المعاناة عن المواطن من خلال الاستقرار الاقتصادي.
- الحيادية والموضوعية والتوازن في التعامل مع النزاع وأطرافه.
مؤكد أن التدخل الخارجي لا يكون إلا لتحقيق مصالح الأطراف الدولية أولا، لكن عندما يشعر أهل البلد، بما في ذلك النخبويون منهم، بالخطر أو يواجهونه لن يناقشوا التدخل من ناحية المبدأ ما دام يحقق لهم النقاط الأربع السابقة الذكر، بل ربما سيدعمونه بحماس.
والحل الأمثل للخروج من الأزمة الراهنة دون تدخل خارجي هو التوافق محليا والاتفاق على حل جذري للنزاع، وهو الأمر الذي تعجز عن الوصول له أطراف النزاع، ويتعمد بعضها عرقلته إلى الدرجة التي أصبح الحل "الليبي" شبه مستحيل.
عليه سيكون من المثالية المفرطة رفض مساهمة الأمم المتحدة والتصدي للدور الدولي، والمنطق يقول بأن يتبلور التدخل الدولي في إطار النقاط التي سبق ذكرها، واعتبار أن أي مساهمة خارجية، أو حتى ضغوط، ضمن هذا الإطار مقبولة جدا.
وبالنظر إلى تجربة غسان سلامة، الذي قال إنه صاغ خطته المعروفة لحل النزاع بعد فشل مفاوضات تونس من مخرجات التفاوض دافعا عن نفسه شبهة الانحياز، فقد تم رفض مبادرته من مجلس الدولة الشريك في التفاوض والسبب أنها تقترب من مطالب البرلمان.
واتهمه بعض أعضاء الهيئة التأسيسية بالتقلب بعد تجاهله تراتبية الإصلاح السياسي الذي تقدم به وعدم ذكره للاستفتاء على الدستور قبل الانتخابات مؤخرا.
وبالنظر إلى خيارات ومواقف وحتى تذبذب سلامة، لا يمكن الجزم أنه انحاز بدافع سياسي أو مصلحي لطرف دون الآخر، واعتقد أنه أراد تجاوز المختنق الراهن، والتقدم خطوة في مسار إنهاء الأزمة بالرهان على البرلمان.
الإشكال أن سلامة أخل بالنقطة الرابعة، المتعلقة بالحيادية والموضوعية والتوازن، حيث أن ما قام به هو اجتهاد، بتفضيل مقاربة هي محل خلاف شديد، وليس مجرد صياغة ما طرح في مفاوضات تونس كما ذكر.