بقدر ما يكون المجال السياسي مفتوحا وواسعا، ووسائل
الإعلام متعددة ومتنوعة، بقدر انفتاح وسعة الفضاء العام الذي تتقاطع فيه الرؤى والأفكار والتمثلات، وبقدر اتساع المجال الذي يعتمل فيه الفعل السياسي باعتباره رافدا من روافد
الديمقراطية.
تلتقي المستويات الثلاثة (الفضاء العام والمجال السياسي والديمقراطية الجماهيرية) في أكثر من نقطة بحكم طبيعة الوظيفة وآليات الاشتغال، لكنها قد تتنافر بقوة عندما يتسع مجال كل واحد منهم كثيرا، أو يقتص لنفسه فضاءات إضافية على حساب الفضاءات الأخرى. لذلك، فإن تحرير الإعلام في ظل مجال سياسي مفتوح وواسع، إنما يستوجب حدا أدنى من التنظيم والتقنين والتأطير.
فإذا كان الفضاء العام هو المجال المركزي للديمقراطية، على مستوى تداول وتبادل الرسائل والمعلومات، فإنه بحاجة إلى تنظيم وتوزيع للأدوار (بين وسائل الإعلام العمومية والخاصة من ناحية، وبين وسائل الإعلام العامة والمتخصصة من ناحية ثانية)، وذلك للحيلولة دون اختلال توازن التواصل بداخل ذات الفضاء، ودون الحد من انسيابية المعلومة الضرورية لتأثيث النقاش العام.
لا يربتط الأمر هنا فقط بضمان الحد الأدنى من النسقية بين سوق إعلامي محرر و"سوق سياسي" مفتوح، بل أيضا بضرورة صيانة القواعد الأساسية التي تضمن سريان مبادئ المصلحة العامة، وتحول دون هيمنة فاعل ما، أو سطوة مستوى من المستويات القائمة والمتغولة. فالمحطات التلفزيونية العمومية مثلا؛ قد لا تكون دائما وفيّة لمبادئ المرفق العام، تماما كما أن المحطات الخاصة قد لا تكون بالضرورة مؤسسات تجارية تبتغي الإنتاجية والربح. بالتالي، فليس من الدقة في شيء أن نستبعد اعتبارات المصلحة العامة عندما نتحدث عن الدور المحوري لوسائل الإعلام وللرأي الحر في الفضاء العام. إذ قد يقدم القطاع الخاص خدمات جمة للمرفق العام، فيما قد تتلكأ شبكات القطاع العام في الإسهام في ذلك، على الرغم من أنها مؤتمنة على المرفق العام أكثر من ائتمان القطاع الخاص عليه.
التلميح هنا يحيل صوبا على الحق في التعبير، وذلك كي لا يتم الخلط بين التعبير والاتصال، على اعتبار أنهما مستويان مختلفان ومتباينان. إن حرية
الاتصال - يقول فولتون - "تختزل دائما في مطلب التعبير دونما أخذ رأي الآخر بعين الاعتبار. بالتالي، فإن الذي نسميه تواصلا لا يعدو سوى كونه مطالبة بالحق في التعبير. بيد أن التعبير لا يمكن أن يقوم دون الآخر، وهذا الآخر قد يكون لديه شيء يقوله وليس فقط يسمعه... إن حرية الاتصال يجب أن تكون مصحوبة بهذا الشرط: يجب ألا نقتصر على الحق في التعبير، بل أن نعترف بأنه في أي مسلسل اتصال، ثمة على الأقل مخاطبين، وأن للآخر دائما شيئا يود قوله وليس دائما تلقيه. الإكراه هنا هو شرط من شروط
الحرية".
وعلى هذا الأساس، فإن تحرير المجال الإعلامي (كما تحرير المجال السياسي سواء بسواء) لا يمكن أن يقوم أو يستقيم دون إعادة تقنين أو تنظيم أو تأطير، أي دون ممارسة أي نوع من أنواع الإكراه كما يلح على ذلك منطوق فولتون. إذ إن حرية الإعلام (ومن ثمة حرية الاتصال) إنما من شأنها أن تفرز تعددية في الصناعات الإعلامية وفي آليات المعالجة والمقاربة، بيد أن خلف هذه الصناعات يثوي مواطنون وقيما ورهانات كبرى، تتجاوز الصناعات إياها، لا بل إنها من خاصيات ومن مستويات أخرى، نفسية أو ثقافية أو دينية أو ما سواها.
بالتالي، فإن الإعلام والاتصال ليسا دائما تقنيات ورسائل تبعث وتستلم. إنهما أيضا وبالأساس أداتان لـ"ربط" المواطنين والمجموعات البشرية التي تتداول وتناقش وتتقاسم الأفكار والرؤى والتصورات. إنها "كائنات" تتواصل في إطار فضاء عام يتقاطع بصلبه السياسي، بالاقتصادي، بالثقافي، بالديني وبالعقائدي. هو فضاء تتقاسمه تناقضات جمة، لا يمكن أن تتعايش وتتساكن إذا لم يتم إعمال مبدأ الإكراه للجمها وتحديد سقفها ومداها بدقة.
بيد أن الحالات التي يتحول تحرير الإعلام بمقتضاها إلى هيمنة إعلامية متقدمة غالبا ما تحد من هذا التنوع؛ لأنها لا تتماهى معه بقدر ما تتماهى مع التنميط والقولبة والصهر في إطار منظومات "موحدة". ولذلك، فحتى وإن لم يذهب هذا التنميط لحد فرض قيم وتمثلات وسائل الإعلام والاتصال، فإن هذه الأخيرة لا تعكس إلا نادرا ما يتموج بالمجتمع ولا تعمل هذه الوسائل، أو لا تجد مصلحة في عكسها أو تقييمها أو طرحها بالفضاء العام. إنها متناقضات العلاقة التي تجمع الإعلام بالاتصال. وهي المتناقضات أيضا التي تحول دون سمو "قيم" الفضاء العام في تكريس الديمقراطية، وفي جعلها أداة من أدوات الفعل الجماهيري الواسع.