يبدو أن فعل
الثورة يبدأ وينتهي في اللحظة التي يسقط فيها النظام الذي تثور عليه الناس، ولا يندرج تحت هذا المعنى التغيير بقوة الجيوش والأمن، مهما صلحت أو حسنت نواياهما.
الذي يحدث في الثورات، أن هناك طائفة كانت تمارس الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، سواء أكانت هذه الطائفة قلة أو كثرة، والممارس عليهم الظلم شعبا أم فصيلا وتيارا سياسيا أو دينيا.
تأتي الثورات عادة بظلم لا يقل فداحة عن ظلم الأنظمة الساقطة، فرجالها الذين ينطلقون في حالة هيسترية تكتسح كل شيء.. لا يبالون بالإجراءات أو القوانين أو التدرج في الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لذا كل الذي يحدث هو تبادل أدوار في عملية الظلم والإقصاء. فمن كانوا مقربين بالأمس ومتنفذين؛ أضحوا اليوم مبعدين ومعارضين. ثم تعود الدائرة دورتها في الثورات المضادة التي تنتقم من الثوار السابقين، في سلسلة لا تنتهي، في حين أن الغائب غير الحاضر بشكل مطلق هي الدولة.
الثورة التي تنتهي ويفشل صناعوها في الانتقال إلى الدولة والسلطة المتماسكة التي تستطيع جمع كل السلطات بين يدي القائمين عليها، والذين من المفترض أن يكونوا منتخبين بإرادة شعبية، تنتهي هي الأخرى إلى مجرد احتفالات فلكلورية، تنتعش فيها ذاكرة من بقي حيا من أبنائها.
ولذا، دائما كل سنة يعزي الثوار السابقون أنفسهم بأمجاد الثورة، ويتذكرون فضيلتها في إزاحة نظام ظالم مستبد، إلا أنهم يتجنبون الحديث عن الفوضى الظالمة المستبدة. حسابيا وبالأرقام، قد تبدو المعادلة شبه متساوية الطرفين، أو يتجاوز أحد أطرافها الآخر.
يرفض قطاع من الثوار الدولة، كونها آلة صلبة قد يتعرضون إذا ما دخلوا فيها إلى الطحن، بسبب ما يرتكبون من مخالفات طوال سنوات الفوضى، فعادة ما يحصنون مراكزهم الدفاعية التي تحتل فيها الفوضى مكان القلب من الجسد.
الفشل في صناعة الدولة يرجع لعوامل خارجية كثيرة، فثمة دول تتضرر من استقرار بعضها البعض، وثمة خشية من وصول غير مرغوب فيهم إلى سدة السلطة، وثمة مصالح إقليمية ودولية تتضارب وتتداخل وتتعاند وتصطدم ببعضها البعض. كل ذلك على حساب التماسك المؤسسي.
إلا أن لكهنة الثورة وجنودها مصالح أعلى وأشد وأقوى في استمرار مسلسل الفوضى، إضافة إلى عامل حاسم آخر لا يقل عن السابقة، وهو أن الخبرة الضيئلة للقادمين الجدد والضحالة المتفشية بين نخبهم، بسبب نظرتهم الحالمة وغير الواقعية لكيفية إدارة دواليب السلطة، تهشم كل المؤسسات وتضعفها. ويرجع ذلك إلى عهد أنظمة
الاستبداد التي احتكرت السلطة بشكل مطلق، وجعلت خبرة المعارضين لا تتعدى مجرد التغريد والطوباوية.
ويحتاج الحكام الجدد، أو بمعنى أدق الفوضويون، إلى سنوات وسنوات لكي يراكموا خبرات تسمح بإدارة الدولة، إلا أنهم في الأثناء لا يسمحون لغيرهم بالحكم، في صورة لا تقل تشابها عما حدث معهم إبان أيام التغريد والمعارضة.
المربع الأبعد فيما بعد الثورات هو السياسة، بمعناها الذي يقتضي الحكم وفق أصول التداول السلمي للسلطة. وهذه الجملة الأخيرة لا تتعدى كونها أغنية وطنية يلحنها الجميع في جوقة فارغة من كل معنى.
العُقد التي تنشأ فيما بعد الثورات لا يتم تجاوزها إلا بعد إنهاك مقدرات الدولة والشعب معا. فعقد المرجعية الدستورية والقانونية، وتصارع الشرعيات، وأنواع البرلمانات والحكم المحلي، وتوزيع الثروات.. هي دائما مفتوحة للنقاش فوق الطاولة، ومن تحتها تنتصب الأسلحة منزوعة التأمين للبدء فورا في اشتباكات مسلحة مغطاة بنكهات مختلفة إلا أنها فارغة.
ما تحتاجه الدول بعد الثورات هو الحد الأدنى من التوافق، وليس المرجعيات أو الشرعيات.. الحد الأدنى الذي يسمح بلملمة شعث الدولة، وتوفير الحد الأدنى أيضا من الأمن الغذائي والاقتصادي والأمن الشخصي وأمن المؤسسات.
بالتأكيد، الشعب منهك فيما قبل الثورة، إلا أنه أشد إنهاكا بعدها، رغم الجدال الذي يبرز بشأن التحرر واستلام زمام صناعة القرار.
ولا يعني ذلك أن العودة إلى أنظمة الاستبداد هو الحل الأمثل. ففي حالتنا الليبية لم يعد هذا ممكنا، إن لم يكن مستيحلا، إلا أنه يجب طرح أسئلة عن جدوى ما جرى طوال السنوات السابقة، ومواجهة الذات العامة والخاصة في صراحة فاقعة الألوان. ولا تدعو هذه المقالة إلى عدم الاحتفال والتغريد بمناسبة ذكرى الثورة، كثر المحتفلين أم قلوا.
البعض يجادل بأن أوروبا مرت بما هو أنكى مما نراه اليوم، وكأن المسألة خطة محكمة لا يمكن النفاذ منها، أو كما يحلو لمعلقي كرة القدم "زي الكتاب ما بيقول".. أظن أن المسألة أكبر من ذلك، فيبدو أن جبرية تاريخية تحكم هذه المنطقة العربية. إذ أنه رغم المبادئ السامية في الحكم وإدارة السلطة التي جاء بها الإسلام، إلا أنها لم تطق العيش بحرية إلا بضعة عقود فقط.