عاد الجنرال خليفة
حفتر إلى مربعه في منطقة الرجمة، شرق
ليبيا، بعد غياب دام عن البلاد قرابة الشهر، بسبب المرض، وهو الذي أكده في كلمته عندما قال بما معناه، "كان مفترضا أن ألقي كلمتي واقفا" إلا أنني وجدت كرسيا فجلست". وشكلت هذه العودة انتعاشة كبيرة لدى أنصاره، الذين خفت صوتهم إبان فترة غيابه، إلا أنها لم تشكل في الوقت نفسه انتكاسه لدى خصومه السياسيين، رغم كل هذا الضخ الإعلامي لأنصاره ولغة الهوس المتبعة من وسائل إعلامهم المحلية والعربية، أيضا ومع كل الردح على وسائل التواصل الاجتماعي.
ليس على حفتر الآن إلا أن يبدأ بالنظر في معسكره الذي أصابه الخلل والارتباك فترة غيابه، والتفكير المحتشم الذي انتشر للبحث عن بديل له، هذا المعسكر الذي تمسك كل خيوطه مصر والإمارات. أيضا سيستمر حفتر في نهجه الرافض لأي تسوية سياسية بعد الشعور المعنوي لديه بأنه وجه ضربة لخصومه بسبب اعتقادهم بأن الرجل اختفى، أو كاد، عن المشهد.
حفتر لا يجيد لغة السياسة، ولا يستطيع التنفس عميقا في حوراته مع البعثة الأممية أو المبعوثين الدوليين. ففي يوم ما يطالب بأن يكون له ممثل في المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، ويقول إنه قادر على لجم مجلس النواب الليبي ورئيسه عقيله صالح، وفي اليوم التالي يبلغ المبعوث الأممي أنه قابل بالانتخابات، التي وصفها بعد عودته بأنها تمثيل غير حقيقي، في استدعاء لمقولة العقيد الراحل معمر القذافي "التمثيل تدجيل". فرغم معارضة حفتر لنظام القذافي سنوات طويلة، إلا أنه عند الحاجة لمخرج يؤكد فيه حكم العسكر؛ نبش في ذاكرة القذافي ليخرج بهذه العبارة.
حفتر يقتات على الحرب والتوتر العالي، كما يحلو لمحلل سياسي ليبي أن يصف به الجنرال حفتر، ولذا لن يستطيع مقاومة إغراء الاقتتال.. قد تكون محطته القادمة هي درنة، التي يرى فيها فرصة ذهبية لإعادة تأهيل صورته أمام المجتمع الدولي وحلفائه الإقليميين في القاهرة وأبو ظبي. وهي حرب - إن اندلعت - ستكون تكلفتها باهظة، ليس على سكان درنة المحليين، بل على حفتر نفسه، بسبب ضعف القيمة الأخلاقية للحرب، وفقدها الشرعية السياسية من المؤسسة الرسمية المعترف بها دوليا.
نزقه وصلفه وعدم قدرته على التفكير أو التنفس بهدوء؛ قد يدفعه إلى شن حروب في شرق ليبيا، وقد يدفعه أيضا إلى مزيد من التوتر، مع استمرار رفضه المطلق للتسوية السياسية التي تتطلب في أحد أبرز جوانبها الخضوع للسلطة المدنية، وبالتالي استمرار دور حفتر التأزيمي ومحاولة قلب الطاولة على الجميع.
لكن من المتعذر على الجنرال الليبي خوض حرب كبيرة يستطيع من خلالها السيطرة على كامل ليبيا، بسبب الظروف الخاصة التي تمر بها البلاد، حيث إن الانقسام السياسي والعسكري والأمني لن يؤهله أو يجعله قادرا على حكم البلد الطويل والعريض والممتلئ بالفجوات والتناقضات والخلافات، وما يتبع ذلك من خلافات إقليمية ودولية.
سيزيد تمسك حفتر بضرورة إلغاء المادة الثامنة من الأحكام الإضافية من اتفاق الصخيرات السياسي، التي نقلت الصلاحيات الأمنية والعسكرية كافة إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، بعد توقيع اتفاق الصخيرات في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 2015.
كما سيحاول حفتر تقزيم دور رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، الخليفة السياسي المحتمل والمستفيد الأكبر في شرق ليبيا من اختفاء حفتر. ومن الممكن أن يحرض حفتر أنصاره من أعضاء البرلمان إما على إسقاط عقيلة أو عرقلة عمل البرلمان، خاصة في الشق المتعلق بمفاوضات تعديل الاتفاق السياسي بالشراكة مع المجلس الأعلى للدولة.
أحد الألحان المتوقع أن يدندن ويعزف عليها حفتر في رفضه أي مفاوضات سلام، هو أن رئيس المجلس الأعلى للدولة المنتخب خالد المشري، ينتمي إلى جماعة وحزب يصنفه هو وأنصاره المحليون وحلفاؤه الإقليميون كجماعة وحزب إرهابي، وهذا مع الوقت قد يدفع المجلس الأعلى للدولة في وقت ما، في حال تعثر المفاوضات، إلى سحب الثقة من المشري.
عاد حفتر، وهذا لا يمثل انتصارا لحلفائه وأنصاره أو هزيمة لخصومه، بقدر ما هو استمرار للتشظي والانقسام وطول المراحل الانتقالية، والهوس والجنون غير المحدود أو المعقول بحلم عسكرة الدولة، وهي التي لا تقل خطرا عن الإرهاب الذي حاربته كل الأطراف الليبية، ولم يعد هو الوكيل الحصري.
حفتر قال في كلمته إن جيشه يسعى لما يتمناه الليبيون من رغد العيش منذ 700 سنة، ونسي أن التاريخ يكذب دعواه، فلم يبرهن التاريخ أن العسكر جلب الرفاه للشعوب يوما. وإن كل ما يأتي به حكم العسكر هو الفقر والفقر المدقع، ممزوجا ومخلوطا بالقهر والذل.