هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حكمت المحكمة حضوريا بالإعدام شنقا
ذهبت للسجن الحربي، وظللت فيه حتى ذهبنا للمحكمة. وكانت بالطبع محكمة هزلية، فلا يوجد في القاعة غير شابة صحفية ظلت تبكي، والمحامي الذي أرسله لي والدي - وكان محاميا مشهورا جدا - وظل يقول: يا قضاة الشعب، إن موكلي لا تهمة عليه إلا تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، وهذه جنحة عقوبتها السجن ستة أشهر. فقال له رئيس المحكمة: ألم تقرأ القانون الجديد يا أستاذ؟ من يقوم بتهريب أحد من المطلوبين للعدالة يحكم عليه بالإعدام (مادة 2)، يطبق بأثر رجعي!! فجلس المحامي ولم يتكلم، وصدر الحكم بإعدامي شنقا، كما حكم على 11 آخرين من الإخوان بالإعدام، منهم سعد حجاج وعلي نويتو، وآخرين، وحصل عديد من الإخوان على حكم بالبراءة، لكنهم ظلوا في السجون، ولم يخرج منهم أحد.
بالبدلة الحمراء
ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن فيها شيء، حتى الجوارب أخذوها، وأخذوا كل ملابسي، حتى المناديل، ولم يكن مسموحا لنا بشيء إلا بشيكولاتة، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رضي الله عنهم وأرضاهم. والإخوة الكرام الستة الذين تم إعدامهم في 8 كانون الأول/ ديسمبر سنة 1954م هم: الأستاذ عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، والأستاذ يوسف طلعت، والأستاذ إبراهيم الطيب، والأستاذ هنداوي دوير، والأخ الفاضل محمود عبد اللطيف. وكنت أنا السابع، إلا أنني فوجئت وأنا داخل غرفة الإعدام بحمزة البسيوني يقول لي: تعال هناك مكالمة هاتفية لك، فخرجت، فوجدت علي صبري وصلاح الشيشتاوي جالسَيْن، وأعطاني الهاتف على المكتب، فوجدت محدثي هو مدير البوليس الحربي وكان اسمه أحمد أنور، وحدثته بشدة وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير بالإضافة أنني سأُعدم، فمم أخاف..؟!! وماذا سيفعلون بي بعد ذلك..؟!! فقال لي: كلم والدتك ستقول لك أخبارا سارة. ولأول مرة تنزل الدموع من عيني، ووجدت بالفعل والدتي معي على الخط، فقالت لي: ليس هناك إعدام يا محمد، وفلان وفلان وفلان قد حضروا وألغي الإعدام. وعلمت أنه بعد إعدام الستة الأوائل قلبت الدنيا رأسا على عقب، وحضر رئيس وزراء سوريا ورئيس وزراء باكستان وولي عهد السعودية، حضروا جميعا وألغى مجلس الثورة الإعدامات وحوَّلها إلى "تأبيدة". وأنا لم أصدق، وقلت لنفسي في البداية: ربما هذه هي زيارة الإعدام؛ لأن كل واحد له زيارة قبل إعدامه، وكنت أريد أن أستفز الاثنين اللذين كانا يقولان لي: سواء قلت أو لم تقل فهو إعدام. لكن بعد أن أنهيت المكالمة قالا لي: ما الأمر؟ فقلت لهما: ليس هناك إعدام. فوقفا مذهولين، وخرجت، وكان العنبر كله إعدامات، ومنهم صلاح شادي والشناوي وعلي نويتو وسعد حجاج وصلاح عبد المعطي، ومجموعة كبيرة.. فوقفت في العنبر وقلت لهم: يا إخوانا ليس هناك إعدام، وهذه هي الشيكولاتة. كنت أتحدث وقتها وأنا غير مطمئن، فكل ما هنالك أنه خبر أتى لي من والدتي.
وبالفعل، في اليوم التالي أحضر حمزة البسيوني الجريدة، وفيها في الصفحة الأولى إلغاء الإعدام. ونقلونا من عنبر الإعدام وألحقونا ببقية الإخوان. وفرح الإخوان فرحا شديدا، حيث خفَّف الخبر من صدمة إعدام ستة من خيرة الإخوان. ظللت غير مصدق نفسي أنني نجوت من الإعدام. وبعدها بحوالي عشرة أو 15 يوما ذهبوا بنا إلى ليمان طرة.
وخرجنا من الجحيم
ليمان طرة.. سجن بناه الإنجليز عام 1886م كسجن على النظام الإنجليزي، بعد احتلالهم مصر بقليل، في ضاحية طرة الملاصقة للقاهرة على كورنيش النيل. وهو كان أكبر سجون مصر على الإطلاق حتى بداية التسعينيات من القرن العشرين.
ذهبنا إلى الليمان لنترك ذلك الجحيم الذي كنا نعيش فيه في السجن الحربي، وتم ترحيلنا إلى ليمان طرة يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 1954م، ولم يكن عددنا كبيرا في البداية، (حوالي 50 أو 60 أخا، ثم بعد ذلك أصبحنا 200). وفي البداية، كان يجول في أذهاننا أننا سنذهب لمكان غير مريح؛ لأن إخواننا كانوا من قبل في السجون مثل ليمان طرة وليمان أبو زعبل، وسمعنا منهم أهوال من الحياة القاسية هناك، ولكننا كنا نعتبرها على أية حال أهون من السجن الحربي الذي لا يوجد فيه قانون ولا نظام ولا أخلاق، فعلى الأقل هذا السجن له لوائح وقوانين.
في مدخل الليمان، جُردنا من ملابسنا العادية، وقدم لنا الضابط المختص بدلات سوداء من صنع السجن؛ كانت ممزقة لا تستر أكثر من عورة الإنسان. وكذلك أمر الضابط بخلع الأحذية، فدخلنا الليمان حفاة، ووزعنا في عنبر رقم واحد على زنازين متفرقة؟ كان حظي السعيد بوجودي مع فضيلة المرشد والأستاذ عبد العزيز عطية، وسعدت بخدمتهما، والقيام على معاونتهما، وهما في هذه السن المتقدمة. ومن أكرم المشاهد التي رأيتها في الليمان، هو استقبال النزلاء للإخوان استقبالا كريما، وقد قدم نزلاء الليمان إلى الإخوان وفضيلة المرشد أكسية جديدة، بدلا من ملابس السجن التي وزعت عليهم، وهي ممزقة ومهلهلة، وغير لائقة، فجزى الله هؤلاء النزلاء الكرام خير الجزاء.
مع أرباب المخدرات
في الليمان فوجئنا بأنهم يحضرون لنا ملابس مهلهلة، ووضعوا في خصرنا وأرجلنا سلاسل من الحديد الثقيل، وأحكموا إغلاقها علينا، ثم صعدوا بنا إلى العنابر والزنازين، وكنا قد أعددنا أنفسنا لهذه الحياة القاسية.
كان الناس يسمعون الكثير عن الإخوان والمحاكمات من الجرائد، وكانت الجرائد تشيع عني كثيرا جدا، وفوجئت بأن أهل بلدي من الدقهلية من نزلاء الليمان (جنائيين) يقومون بعمل حفل كبير لي ويدعونني إليه. وأنا بالطبع لا أعلم شيئا، وكما يقولون عندنا "كاركيه".. وذهبنا لهذا الحفل. وقبل أن أدخله، أحضر لي بعض الأشخاص من بلدي بدلة فخمة جدا، وعلمت بعد ذلك أنها بثلاثين قرشا. وكسروا لي الحديد الثقيل الذي قيدت به، ووضعوا لي حديدا أستطيع أن أحله وأرتديه بمفردي.. وأصبحت عمدة بثلاثين قرشا وعمة كبيرة. وعندما ذهبت، وجدت كل ما يخطر على البال من الطعام في وقت لم نكن نأكل سوى الفول المسوس والعدس المليء بالحصى الذي لا يؤكل. وبعد أن تناولت الغداء، قاموا بعمل الجوزة، ورأيت الحشيش لأول مرة في حياتي وكدت أصاب بالدوار من رائحته، فخرجت مهرولا وأنا أقول: حشيش بعد الإعدام حشيش، فلم يقوموا بها مرة ثانية في وجودي.
مسؤول لليمان
وفي ليمان طرة، بدأنا ننظم أنفسنا تنظيما دقيقا، وجاءنا المرشد بعد عدة أيام هو والأستاذ عبد العزيز عطية والدكتور كمال خليفة والأستاذ صالح أبو رقيق، وناداني الأستاذ الهضيبي وعينني مسؤولا عن الإخوان في الليمان، وقال لي: الأستاذ صالح صلة بينك وبين الإخوان في المكتب. ثم بعد شهر تقريبا، نقلوا الأستاذ الهضيبي والأستاذ عبد العزيز عطية من السجن؛ نظرا لكبر سنهما الذي تجاوز الستين سنة، فكان من المقرر ألا يبقى أحد تجاوز الستين سنة في الليمان.
نظمنا أنفسنا بصورة جيدة، وبدأنا نتعامل مع الحياة داخل الليمان بـ"أن كل شيء ممنوع".. السكر ممنوع، والشاي ممنوع، ودورات المياة مفتوحة على بعضها، وفي منتهى القذارة. فبدأنا نتعامل مع الواقع ونحافظ على أنفسنا، ونتعامل مع التجار الذين يحضرون لنا الشاي والسكر. وكان الطعام رديئا وسيئا للغاية، فكان الفول مثلا نقول عليه سوس بالفول، وليس فول بالسوس، والعدس رائحته كريهة، والخضار.. وكنا نقوم بإعداد أهم الأصناف حتى تكون صالحة نوعا ما لتناولها، فكان شيئا فوق التصور، ولكننا تعاملنا معه، وعشنا بجانب بعضنا حياة طيبة ومنظمة. والإخوان كانوا على درجة عالية من الرجولة والصبر، حتى فوجئت بنقلنا من الليمان إلى الواحات.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (16)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (15)