هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بين أحضان المدينة
عشنا في الريف حياة جميلة، لكن كان للقدر رأي آخر، فبعدما انتقل بعض إخوتي إلى القاهرة للدراسة في الجامعة، ارتأى والداي أن ننتقل جميعا إلى القاهرة معهم، واستأجر بيتا في السكاكيني، وكان إيجاره جنيهين. وكان هذا الحي مشهورا بالترف، ولا يسكنه إلا علية القوم آنذاك. ومن المعروف أن حي السكاكيني اشتهر بالرقي حيث يوجد به قصر السكاكيني، وأنه يُعد تحفة معمارية غاية في الروعة والجمال، بما يضمه في طرازه المعماري من مختلف فنون العمارة.
انتقلت، وكنت أحسب نفسي من أبناء المدينة، حيث تربيت في بيت ثري، غير أنني وجدت اختلافا في الطباع والسلوكيات والأخلاقيات، ووجدت فرقا كبيرا بيني وبين أبناء المدينة الأصليين.
كان انتقالنا شروقا جميلا، كأننا خرجنا من بئر عميقة إلى ضوء الشمس المشرقة، ولكن لم تبهرني أضواء المدينة كثيرا، لكنني كنت أستمتع بركوب الحنطور مع والدي، كما أنني أعجبت بالترام حينما ركبته، وكان أعجوبة بالنسبة إلينا، ورأينا السيارات والمحلات التي نادرا ما كنا نراها في القرية.
كنت سعيدا بكلِّ ما حولي، هل الدنيا واسعة هكذا؟! وهذه القطارات الضخمة إلى أين تسير؟! لقد كانت القرية بالنسبة إليّ كل دنياي، وكنت سعيدا وراضيا بها، ولكنني الآن أعيش إلى دنيا جديدة؛ فرحا ومتشوقا لمعرفتها واكتشافها.
أحسست بأن الشمس والحدائق بحي السكاكيني، والجو النقي هي التي تخلق النضارة والإشراق في كلِّ مكان حولنا، والسعادة كلمة لا تكفي للتعبير عن مشاعرنا تجاه هذه النقلة الحضرية.
على عتبات المسؤولية
التحقت بالفرقة الأولى بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بالقاهرة، وكان لا يدخل هذه المدرسة إلا أبناء الزعماء، وكبار القوم؛ حيث كان عدد التلاميذ فيها لا يتجاوز الـ400 طالب. ومع ذلك، كنت محافظا على صلواتي في المسجد وفق التربية والتنشئة الإسلامية التي ربانا عليها الوالد والوالدة.
لقد اختلف جو المدرسة الثانوية كثيرا عن جو المدرسة الابتدائية، من حيث معاملة الأساتذة لنا بنوع من التساهل والحرية النسبية، وقد كانوا يذكروننا دائما - إذا صدر منا خطأ - أننا الآن أصبحنا رجالا؛ ما يزيدنا فخرا وسرورا.
وكان من الأشياء المحورية داخل مدرستنا مناقشة أساتذتنا (على مختلف فكرهم) لنا، والحوار معنا، رغم ثقافتنا البسيطة، لكنها كانت مناقشات هادفة وجدية.
تعرفت على الكثيرين من الطلبة في المسجد، وتوطدت علاقات الصداقة، وحرصنا على التعرف على بعضنا البعض، وتوثيق عرى المحبة بيننا.
كان أصدقائي الجدد صورة تختلف كلية عن أبناء القرية الطيبين، هادئي الطبع، أصحاب الخلق والقيم، غير أنني تعرفت على أصحاب الخلق القويم.
كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها، وكان الألمان على مشارف البوابة الغربية لمصر، وكنا نسمع صفارات الإنذار والغارات.
لقد بلغ الألمان العلمين، حيث تدور معركة حامية الوطيس بينهم وبين الحلفاء، وكنا في قرارة أنفسنا نكره الإنجليز؛ لأنهم احتلوا وطننا وأذلوا شعبنا، كما أننا لا نعرف من هم الألمان، لكننا ننظر إليهم على أنهم سيساعدوننا في الاستقلال.
عاكف في قطار الإخوان
الإخوان المسلمون جماعة إسلامية إصلاحية شاملة، تعمل من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد أسسها الإمام الشهيد حسن البنا، الشاب الجامعي الذي تخرج في كلية دار العلوم، ثم عين في الإسماعيلية، حيث الطبيعة الفريدة في هذه المحافظة، وحيث التقت القلوب مع بعضها، فأخرجت شبابا تقيا يعمل من أجل هذا الدين الشامل، مع العلم أنهم ليسوا من حملة الشهادات الجامعية؛ فقد كان معظمهم عمالا.
انتشرت الدعوة في ربوع القطر المصري مع مرور الوقت، حتى وصفه الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس بـ "الرجل الذي يتبعه النصف مليون".
تردد أمامي اسم الإخوان المسلمين في هذا العام، وعمد بعض أصدقائي لتعريفي بمبادئ هذه الجماعة، وإلى أي شيء تدعو. ومن المعروف أن الإمام الشهيد البنا اهتم بالشباب كثيرا، حيث خصص لهم قسما هو قسم الطلاب، وجعل مسؤولية هذا القسم تابعة له مباشرة، وقد خصص لهم موعدا مستقلا بهم عن لقاء الثلاثاء، هو لقاء الخميس؛ حيث يلتقي بجموع الطلبة الإخوان، ويبيت معهم أحيانا؛ ليعلمهم الفهم السليم للإسلام، ولقد عمل هؤلاء الشباب على نشر دعوة الإخوان وسط الطلبة وأقرانهم في الجامعات والمدارس، بل كانوا يجوبون القرى والمدن يخطبون فيها، ويعرفون الناس معنى ومفهوم دعوة الإخوان المسلمين، فكان منهم الأساتذة: محمد عبد الحميد أحمد، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وحسن دوح، ومصطفى مؤمن، وغيرهم الكثير.
بين حياة الطلبة وعشق الرياضة
كان الإمام الشهيد في لقاء الخميس يقوم بإلقاء التوجيهات عليهم. وقد أثمرت أنشطة الإخوان في أوساط الطلاب، فانضمت إليهم أعداد كبيرة من طلاب الجامعة المصرية، كما أثمرت أنشطتهم بانضمام بعض الأفراد للإخوان من خارج مصر، حيث كانوا يدرسون في الأزهر الشريف.
وكان للطلاب ركن ثابت في جريدة الإخوان يعلنون فيه عن آرائهم، ويشاركون به في نشر الدعوة والوعي بين أوساط الإخوان، ويكتبون فيه في شتى المجالات تحت عنوان "قسم الطلبة"، كما أن الإمام الشهيد كان يعقد في نهاية كل عام دراسي حفلة للطلاب يحثهم فيها على العمل لدعوتهم، ويمدهم بالنصائح الغالية التي تعينهم على مواصلة الطريق، كما كان الإمام الشهيد يحثهم على التفوق في دراستهم.
الإخوان المسلمون.. طرق الاسم مسامعي لأول مرة وأنا في الفرقة الأولى من التعليم الثانوي، من أحد أصدقائي بالمدرسة عام 1940م. وحينما كنا نقطن في السكاكيني، كانت هناك شعبة بهذا الحي (ولربما كانت من أوائل الشعب التي نشأت في القاهرة)، وكان يقام فيها الكثير من الأنشطة، سواء الرياضية أو الاحتفال بالمناسبات الدينية أو الجوالة، أو غيرها من الأنشطة التي كانت تخدم الفقراء والمحتاجين.
لقد جمعتنا الكرة مع أصحابنا الجدد في الحي والشعبة، وكانت أمامنا عدة أراض فضاء كنا نعدها كملاعب لهذه اللعبة المحببة. ولقد قربني إتقاني لهذه اللعبة من الصحبة الجديدة، وكان كل لاعب يحاول ضمي لفريقه. ولقد تعرفت بأنواع جديدة من البشر لم أرها من قبل؛ مختلفي الأمزجة، لكنني حرصت على التعرف على أصحاب الخلق القويم، وكنا بعد انتهاء المباراة نجلس سويا نتحاور في ما حدث من أخطاء في المباراة، ثم يدور الحديث هنا وهناك.
وفي عام 1941م تعرفت على الإخوان في شعبة السكاكيني، وكان معي أصدقاء كرام أمثال: الأستاذ أحمد السكري، وأحمد عادل كمال، وعبد المجيد أحمد حسن، وإبراهيم الطيب، وحنفي الأبيض.. إلا أنني لم أزر المركز العام إلا وأنا في الصف الثالث الثانوي عام 1943م، حيث استمعت للشيخ حسن البنا.
انتظمت في الحضور لشعبة الإخوان لممارسة الرياضة والصلاة وسماع المحاضرات، ونشطنا داخل مدارسنا في التعريف بهذه الجماعة، وكان لكل فصل مندوب من الإخوان.
كنت سعيدا بهذا النشاط، وواظبت عليه حتى تم فصلي من جميع مدارس القطر المصري، وحضر أبي، وكتب تعهدا بعدم ممارسة أنشطة سياسية، وعدتُ معه إلى القرية، وكنت وقتها في الثانوية العامة (التوجيهية).
والحمد لله، لم يستمر الوضع كثيرا؛ فقد عدت للقاهرة - وكنت ممنوعا من دخولها قبل ذلك - والتحقت بمدرسة الإسماعيلية في حي السيدة زينب؛ لأداء امتحانات آخر العام فقط؛ ذلك لأن قرار فصلي من جميع مدارس القطر لا يزال ساريا، فلم أكن أذهب إلى المدرسة، وكان علي استيعاب الدروس المقررة بمعرفتي. ومن فضل الله، كان يسكن أمامي مباشرة أخ اسمه محمود أبو الوفا - أخو إبراهيم الطيب واسمه الحقيقي إبراهيم أبو الوفا صقر - وكان في التوجيهية، أيضا فكان يذهب إلى المدرسة، وفي المساء نجلس معا نراجع كل ما أخذه. والحمد لله فقد كنت أستوعب الدروس، وأفهمها جيدا.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (1)