هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اختار البرلمان محمد الشكري محافظا جديدا للمصرف الليبي المركزي، والظاهر أن الاجتماع غير المسبوق للبرلمان منذ أشهر طويلة وذلك من ناحية عدد الحضور، إنما يأتي في سياق مخاوف كبيرة وضغوط واسعة يتعرض لها الأعضاء بسبب تفاقم الأزمة المالية والتي زادت من سخط الشارع الليبي على الجسم التشريعي الذي بدا ضعيفا ولا دور إيجابي له.
أيضا يمكن اعتبار الحالة الحماسية التي دفعت البرلمان للالتآم بهذا الشكل بمثابة رد على مساعي شطبه من قبل حفتر الذي كرر في مناسبات سابقة أن الأجسام السيادية تنتهي بحلول السابع عشر من ديسمبر الجاري وهو تاريخ انتهاء الاتفاق السياسي كما يرى كثيرون.
تجاوز البرلمان كل التحفظات السياسية والقانونية والتي تدور حول الحاجة لتعزيز الوفاق وضرورة التشاور وتهيئة أجواء إيجابية لاحتواء المختنق الاقتصادي الكبير.
لقد تجاهل البرلمان الاتفاق السياسي الذي أصبح مُنشأ لكافة الأجسام السيادية في ليبيا، حيث يقضي الاتفاق بأن يتم التنسيق بين الأجسام المنبثقة عنه فيما يتعلق بتعيين مدراء ومسؤولي المؤسسات الخمس الكبرى والتي من بينها المصرف المركزي.
من الناحية العملية اعتقد بأن أثر قرار البرلمان ينحصر في استبدال محمد الحبري بمحمد الشكري لا أكثر، وما كان للقرار أن يكون له نتائج أكبر من ذلك حيث أن النزاع مضافا إليه وجود مبررات للتحفظ على قرار البرلمان كفيلة بأن تجعل ما قام به الأخير شكلي.
الدراسة البسيطة للوضع العام كانت يمكن أن تجعل البرلمان يتجاهل فكرة تعيين محافظ جديد للمصرف المركزي.
فشل التفاوض الذي جرى في تونس منذ أسابيع ضاعف من حالة عدم الثقة بين الأطراف المتنازعة، ومن الطبيعي أن يدفع بكل طرف للتمترس حول ساحة نفوذه والسعي لإثبات حضوره سواء كان الهدف جولة جديدة من التفاوض أو كان الاستعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقترحة.
من ناحية أخرى، فإن مواجهة الأزمة المالية يتطلب جملة من الإجراءات التي لا تنحصر في السياسة النقدية وأدواتها التي هي صلب عمل ومسؤولية البنك المركزي ومحافظه، وذلك مع تسلمينا بأن المحافظ يمكن أن يسهم في التقليل نسبيا من الآثار الحادة للأزمة، وهو ما لم يقم به الصديق الكبير الذي استغل العقبات التي تواجه قرارا البرلمان وأعلن عدم انصياعه له.
لكن ينبغي التنبه والقول إنه من الوهم الاعتقاد بأن أي سياسة اقتصادية (مالية كانت أو نقدية)، منفردة، يمكن أن تقود إلى عودة الدينار الليبي إلى وضعه الطبيعي وإلى تراجع المستوى العام للأسعار.
الأزمات السياسية وتوابعها من خلل أمني كبير وتدهور اقتصادي حاد لا يتم احتوائها إلا من خلال ترتيب الوضع السياسي لأنه مفتاح الاستقرار وأولى خطوات معالجة الاختلالات الأمنية والاقتصادية، وبالتالي فإن تجاهل هذه التراتبية والتركيز على معالجة المشكل الأمني أو الاقتصادي لا طائل منه وسيكون أثره محدود ومؤقت.
من المهم الفهم أن أدوات السياسية النقدية التي يتحكم فيها المصرف المركزي إنما تتعلق بمجال اقتصادي ومالي رحب ينبغي أن يكون مهيأ للاستجابة لقرارات المصرف المركزي بالخصوص، وهو وضع لا يمكن الجزم به في ليبيا اليوم.
فعلى سبيل المثال هل يستطيع المصرف المركزي ضمان التزام المصارف التجارية المنتشرة في كل إرجاء البلاد بتطبيق قراراته المتعلقة بإصلاح الوضع المالي؟!
الاعتمادات المالية الممنوحة للشركات والمخصصات الأسرية بالعملة الصعبة (400 دولار للفرد) أثبتت أن الخلل في المنظومة المصرفية كبير ويمكن أن يعطل الأثر الإيجابي لأي سياسة يتبعها المصرف المركزي، ويقلل من فرص تجاوز الأزمة المالية الراهنة، وبالتالي فإن الحاجة ماسة لتوافق شامل يدخل ضمنه ترتيب الأوضاع الأمنية وتفعيل المؤسسات والأجهزة الرقابية والتنفيذية لضبط الأوضاع في المنظومة الاقتصادية والمالية للدولة.
والخلاصة أن معالجة الوضع الاقتصادي المأساوي والأمني الكارثي يبدأ بالتوافق الشامل والحقيقي، وأي خطوات تتجاوز الوفاق الشامل والحقيقي إنما هي إطالة في عمر الأزمة من خلال إيجاد أوجه جديدة لها فحسب.