بعد كل جريمة جنائية أو إرهابية يتعرض لها الأمنيون في تونس - وهي جريمة مدانه بكل المقاييس ولكن يجب ربطها بحالة الانفلات الأمني وغياب الدولة لا جعلها موضوعا مستقلا بذاته - يعود مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين إلى ساحة السجال العام.
لماذا نجد أنّ النقابات الأمنية هي الأعلى صوتا داخل المنابر الإعلامية العمومية والخاصة؟
ولعل من واجب المشتغل بالشأن العام، والذي لا يخضع للإرهاب الفكري الممنهج الذي تمارسه أغلب النخب الإعلامية والنقابية والسياسية، والكثير من النخب المحسوبة زورا على الساحة "الحقوقية"، أن يطرح سؤالا أصليا سترتبط به بالضرورة جملة من الأسئلة المشتقة أو الفرعية التي تمثل عناصر إجابة ممكنة لسؤال "الثورة المضاد: لماذا نجد أنّ
النقابات الأمنية (المسيسة وذات الارتباطات "المشبوهة" بمراكز قوى سياسية وجهوية واقتصادية لا علاقة لها في أغلب الأحيان بالمصالح المادية والاعتبارية للأمنيين) هي الأعلى صوتا داخل المنابر الإعلامية العمومية والخاصة، أو لماذا تجد مطالبها اللادستورية أو اللاقانونية كل هذا الدعم من النُّخب التي يُفترض فيها- "نظريا" على الأقل - أن تكون نقيضها المفهومي والموضوعي؟
ينطلق صاحب هذا المقال من مقدمة أساسية لا يدعي أنها فوق النقد أو النقاش، ولكنه يرى أنها ذات قدرة تفسيرية أعلى من الإجراءات التفسيرية "التسطيحية" والمسيّسة الغالبة على المشهد الإعلامي العام. ويمكن صياغة هذه المقدمة على النحو التالي: إن أغلب مطالب النقابات الأمنية الواردة في مشروع القانون (بل عملية تأسيس هذه النقابات ذاتها) هي، من جهة أولى، غير منفصلة عن استراتيجيات الثورة المضادة في عهد حكومة قائد السبسي"المؤقتة".. وهي، من جهة ثانية، نتيجة طبيعية لتوازنات القوة داخل المجتمع وعجز أغلب "النخب" عن التفكير من خارج منطق "النظام" وآليات هيمنته المادية والرمزية (لا منطق الدولة الذي يدعون الانتماء إليه وهم أول أعدائه)، أي عجزها عن الخروج من منطقة التضامن العضوي مع ورثة المنظومة القديمة إلى منطقة الانحياز المبدئي واللامشروط للجمهورية الثانية.
لفهم هذه المقدمة، يمكننا أن ننطلق من بعض العناصر المتنافرة، والتي تشكل عند جمعها المشهد التونسي العام وتوجهاته الكبرى:
- ثلاث نقابات أمنية تصدر بيانا هو أقرب إلى إعلان حالة التمرد أو العصيان، ولكنها لا تواجه من طرف وزارة الإشراف والرئاسات الثلاث إلا بالصمت، رغم تهديدها (النقابات) برفع الحصانة عن نواب مجلس النواب، وابتزازها لهؤلاء النواب بإمهالهم فترة زمنية قصيرة لعرض القانون على جلسة عامة؛ وإلا فإنهم سيصعّدون في أشكالهم"النضالية" (في مجتمعات تمييع المعنى والأسماء التي تدور على غير أسمائها يصبح التمرد "نضالا" والنضال "عمالة" أو "تهديدا للأمن القومي").
- برهان بسيس، المستكتب السياسي بنداء تونس، (والمدافع الشرس عن نظام بن علي قبل سقوطه وبعد عودة أزلامه)، يكتب تدوينة على فيسبوك يدعو فيها إلى التعجيل بالموافقة على مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين. ولا يكتفي بذلك، فهو حقه في التعبير والتضامن مع سادة المعنى زمن خدمته لنظام بن علي، بل يتجاوز مرحلة الاقتراح إلى مرحلة "الإرهاب الفكري"؛ مستعملا منطقه المفضل في بناء الثنائيات "الخطرة" أو اللامتكافئة كما يسميها الفيسلوف الفرنسي جاك دريدا: من يدعم القانون فهو وطني، ومن لا يدعمه فهو صاحب وطنية "مشبوهة" أو مشكوك فيها. (ولا شك أن برهان بسيس مساو لنفسه في استعمال مفهوم الوطنية بهذا الشكل، فهو لا يعرف بخلفيته الشيوعية ونهايته التجمعية-الندائية إلا وطنية واحدة؛ هي دائما على مقاس "السيد" موزّع النِّعم).
لا يجد حرجا في استباق الأحداث؛ رغم انعدام الثقة المتزايد بين الجهاز التنفيذي للدولة والمواطنين
- إعلام بذاكرة مثقوبة وبلا ثقافة قانونية، أو بثقافة قانونية محيّدة ومقومعة جيدا. فهو يتناسى دائما أنّ الجهة الوحيدة المخولة قانونيا بتكييف الجرائم هي القضاء، وليس الأمن أو الإعلام. ولذلك لا يجد حرجا في استباق الأحداث؛ رغم انعدام الثقة المتزايد بين الجهاز التنفيذي للدولة والمواطنين (ورغم وجود سوابق أقر القضاء نفسه بأن الإجراءات فيها قد شابها إخلالات جوهرية، بل عمليات تدليس للملفات).
- عميد الصحفيين ناجي البغوري يصرح في حوار مع صحيفة أخبار الجمهورية أن للنقابة تحفظات على المشروع برمته، ويصف القانون بالكارثة، ويقول إنه صالح لكوريا الشمالية ولنظامها الشيوعي، بل إنه يؤكد على أن "تمرير مثل هذا المشروع سيكون عبارة عن وصمة عار على جبين كل من يصادق عليه؛ لأن حتى بن علي لم يتجرأ يوما على تمرير مثل هذه القوانين . (وعندما يصبح المخلوع بن علي مقياسا للحريات وأداة لبيان الوضع الكارثي الذي بلغته البلاد بمثل هذه المبادرات التشريعية، فإنه لا يمكننا أن نتحدث عن انتقال ديمقراطي بقدر ما يكون الأصوب هو الحديث عن "انتكاس ديمقراطي").
منظمة العفو الدولية تجدد رفضها لمشروع "قانون زجر الاعتداء ات على الأمنيين"، وتعتبره "مرحلة خطيرة نحو مأسسة الإفلات من العقاب في القطاع الأمني التونسي"
- منظمة العفو الدولية تجدد رفضها لمشروع "قانون زجر الاعتداء ات على الأمنيين"، وتعتبره "مرحلة خطيرة نحو مأسسة الإفلات من العقاب في القطاع الأمني التونسي". فهو سيعطي للشرطة واقعيا "الحق في "استخدام القوة القاتلة" حتى في حال عدم تعريض حياة الغير للخطر"، وهو أمر "يتناقض مع أحكام القانون العام الدولي". وتذكر منظمة العفو بأنه "في تونس غالبا ما تفلت الانتهاكات المرتكبة باسم الأمن من العقاب، ما أنشأ مناخا طاغيا من تفادي المحاسبة لاعتبار القوى الأمنية أنها فوق القانون". (ولا شك في أنّ موقف هذه المنظمة سيعامل بمنطق التهميش أو التتفيه أو التشكيك؛ لأنّ العقل السياسي (أو النقابي أو حتى الجمعياتي) في أغلب تجلياته هو عقل دوغمائي، بل عقل بوليسي بامتياز.
- قناة إعلامية خاصة (إذاعة موزاييك أف إم) تنشر صورة مسجد وتكتب فوقها: "صورة للمسجد الذي يرتاده المعتدي على الضّابطَين"، وكأن المشتبه فيه هو كائن "مسجدي"، أو كأن ذلك المسجد هو جزء من إمارات التكفيريين! إننا أمام إعلام عمومي وخاص لا يخفي انحيازه للمنظومة القديمة، ولا يخفي تعاطفه اللامشروط مع مطالب النقابات الأمنية. وهو يحاول شرعنة تلك المطالب باعتبارها حقا للأمنيين. لقد انتقل السجال العام في ظل الإعلام المدجن والمسيس (والمرتبط بـ"خبراء" لا علاقة لهم بالانحياز للحقيقة أو المظلومين، وهو انحياز مزدوج يشكل الشرط الضروري للحديث عن "مثقف")، من المطالبة بإصلاح المنظومة أو العقيدة الأمنية الموروثة من زمن الاستبداد؛ إلى توظيف المخاطر الإرهابية الحقيقية والمبالغ فيها لتمرير قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين. ولا شك أن الانتقال من مدار زجر الاعتداءات الأمنية على المواطنين إلى مدار التشريع لقوانين استثنائية تقوي القبضة الأمنية؛ هو ضرب من "أمثلة" Idéalisation الجهاز الأمني وتحصينه ووضعه فوق النقد أو المحاسبة (وينسى هؤلاء، الذين يمثل بعضهم جزءا من منظومة بن علي أو جزءا من حلفائه الموضوعيين بمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي بل تبرير، أنّ تغول الجهاز الأمني ليس له سقف أخلاقي أو إيديولوجي تنتهي عنده.. مما يعني أن من يدافعون اليوم عن القانون سيئ الذكر قد يكونون ضحيته.. ولو بعد حين).
يعكس مشروع "زجر الاعتداءات على الأمنيين" مسارا ارتكاسيا كاملا مرتبطا باستراتيجيات الثورة المضادة التي استفادت حتى من الكثير ممن يدعون محاربتها
يعكس مشروع "زجر الاعتداءات على الأمنيين" مسارا ارتكاسيا كاملا مرتبطا باستراتيجيات الثورة المضادة التي استفادت حتى من الكثير ممن يدعون محاربتها - خاصة بين النخب "الحداثية" - فقد انتقلنا من الدفاع عن حقوق الإنسان والمطالبة بإصلاح المنظومة الأمنية وبناء "أمن جمهوري"؛ إلى مرحلة ثانية اتسمت بـ"التطبيع" مع التجاوزات التي تكاد تصبح نسقية داخل بعض الأسلاك الأمنية (وخاصة في تعبيرتها النقابية)، لنصل أخيرا إلى مرحلة ثالثة يوظف فيها الخطر الإرهابي لشرعنة التمييز الإيجابي، أو التعامل التفضيلي للأمني على حساب باقي المواطنين. كما يعكس تغوّل النقابات الأمنية، التي يصر ممثلوها على أنهم "رجال دولة" وليسوا مجرد أدوات تنفيذ، تحول الحقوقي والإعلامي والمثقف إلى وضعية أقرب ما تكون إلى "الملحق الأمني"، أو الناطق باسم الدولة العميقة. ولذلك فإن تمرد الأمني على دوره التنفيذي وعلى رؤسائه وعلى الطبقة السياسية كلها، وتمرد النقابات على دورها المطلبي لتصبح فاعلا سياسيا رئيسيا؛ ليس إلا نتيجة حتمية لغياب طبقة سياسية أو نخبة حقيقية تعيد توزيع الأدوار بصورة صحيحة.
التغول الأمني ليس إلا عرضا من أعراض الأزمة المجتمعية العامة. فهو نتيجة طبيعية لمسار ارتكاسي كامل
بصرف النظر عن موقفنا من شرعية النقابات الأمنية، ودورها اللاوظيفي في مسار الانتقال الديمقراطي الهش، فإنّ التغول الأمني ليس إلا عرضا من أعراض الأزمة المجتمعية العامة. فهو نتيجة طبيعية لمسار ارتكاسي كامل؛ انقلبت فيه الموازين ودارت فيه الأسماء على غير مسمياتها، وهيمن فيه نظام التسمية الاستبدادي ليكون سيد المعنى ومرجعه الضروري. فعندما يسمى خادم الاستبداد مناضلا، ويُدعى الدجال والدعي خبيرا، وينتحل البوليس البوليس السياسي صفة الإعلامي، ويصبح السياسي مقاولا ووكيل أعمال.. أليس من حق الأمني أن يتطلع إلى صفة "رحل دولة" في ظل غياب "الرجال" و"الدولة" على حد سواء؟ وعندما تدار عملية "أخلقة" السياسة أو "تخليقها" بعيدا عن مداراتها الأصلية؛ لتصبح في خدمة مصالح "الخليقة"- أي صاحب القوة العارية وغير القانونية بالمعنى التونسي الدارج - (أي القبضاي أو الفتوّة بالمعنى المشرقي)، أليس من حق الأقوى (أي حامل السلاح وصاحب الملفات السرية لكل النخب المتصارعة) أن يرى نفسه الأقدر على إدارة هذه المنظومة؛ التي هي أقرب إلى المنظومة المافيوزية (الممهدة للدولة الفاشلة) منها إلى أية منظومة ديمقراطية؛ لكل فاعل جماعي فيها مكانه القانوني المعروف والمعترف بها من قبل باقي الفاعلين؟
ختاما، فإن تمرير هذا القانون هو إعلان حرب مفتوحة على المجتمع، وتقسيم للتونسيين على أساس لا يختلف كثيرا عن نظام الامتيازات في العهد الاستعماري وما قبله. وهو في النهاية قانون يمهد لعودة الدولة البوليسية، ولا علاقة له بالأمن الجمهوري أو بالاحتياجات الحقيقة للمواطنين والأمنيين؛ في بلاد تريد احترام الحد الأدنى من حقوق الإنسان.
إن القانون المقترح في صورة تمريره هو بناء لمجتمع تراتبي مغلق يشبه المجتمع الهندوسي: طبقة البراهمان (الأمنيين وعائلاتهم ومن يقف وراءهم) وطبقة المنبوذين (باقي فئات الشعب). ومن الواضح أن النقابات الأمنية بهذا السلوك الابتزازي والاستفزازي لا تبعث برسالة طمأنة للشعب، وهو ما يستوجب التعامل معه بصورة أكثر جدية قبل فوات الأوان.. إن لم يكن الأوان قد فات بعد منذ الانقلاب على مسار الثورة يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011.