يأتي مؤتمر "شعوب
سوريا" الذي دعت له
روسيا؛ ضمن السّياقات الطّبيعية للتّطورات التي يشهدُها الميدان العسكري، ومُنسجما مع أهم الأهداف الروسيّة المتمثل بالحيلولة دون وصول "السنة" للحكم بدعوى أن السُّنة - حسب الزعم الروسي - الذين يشكّلون الغالبية السّاحقة سيضطهدون الأقليات. وعبّر لافروف عن هذه المخاوف صراحة عندما قال: "إذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قويّة وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سوريا، ولا تراودني أيّة شكوك بهذا الصدد. ويقلقنا في هذا الوضع مصيرُ المسيحيين، وهناك أقليّات أخرى كالأكراد والعلويين، وكذلك الدروز".
ولسنا في صدد تفنيد الزعم الروسي، فزعمهم واضح الأهداف، إنما الهدف هنا توضيح الدوافع الروسية، أو جانب منها، وراء مؤتمر "شعوب سوريا"، فثمة أطماع سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة تحرّك الدّول.
ولا يخفى هنا الارتباط الوثيق بين سلسلة لقاءات أستانة "العسكرية" التي أثمرت مناطق خفض التصعيد. ومؤتمر "شعوب سوريا" الذي جزم سلفا أن الشعب السوري الذي طالما ردد المعارضون والموالاة أنه شعب واحد؛ إنما هو شعوب. فالمؤتمر المزمع عقده بحوالي 1500 شخصية، تمثل كافة
القوميات والأديان والطوائف في بلد يشكل فيه السنة أكثر من 80 في المئة والعرب أكثر من 90 في المئة، سيكون النافذة السياسيّة لمنصّة أستانة العسكرية التي طالما حذّر كثيرون أن تكون بديلا لجنيف والقرارات الدوليّة المتعلقة بالحل السوري. فمؤتمر "شعوب سوريا"، وفق رؤية الرئيس بوتين، هدفه تحقيق السلام عبر ممثلين عن الجماعات العرقيّة كافّة في سوريا. فالمؤتمر يهدف لوضع رؤية مستقبلية لشكل النظام السياسي السوري عقب انتهاء الإرهاب (داعش) الذي يتوقع الروس نهايته في سورية أواخر 2017م، أي وضع دستور سوري جديد، وانطلاق عملية سياسية برعاية وضمانات روسيّة، مما يثير شكوكا كثيرة حول المؤتمر، وربما هذا ما دفع المبعوث الدولي ستافان ديميستورا للتصريح بأنّ المفاوضات المقبلة - أواخر الشهر القادم - ستركز على الانتخابات تحت إشراف دولي والدستور الجديد في سوريا. فثمة إدراك دولي للنوايا الروسية بتجاوز جنيف والقرارات الدولية؛ خلافا لما تدعيه روسيا بأن جهودها تدعم مسار جنيف، وتصب في مجراه.
وتأكيدا للارتباط بين أستانة و"شعوب سوريا"، نجد الكرملين يصرح بعد صمت استمرّ عشرة أيّام، فيما يخص اتفاق تركيا السلمي مع هيئة تحرير الشام على دخول إدلب دون قتال، أنّ تركيا تنسّق عملياتها في سوريا في إطار التّنسيق مع الدول الضامنة لاتفاق أستانة الذي يضمُّ روسيا وإيران وتركيا.
والتّطور الثاني يتمثل بسيطرة قوات سوريا الديمقراطية على حقل العُمَر النّفطي، بعد يوم واحد فقط من إعلان النِّظام السّوري سيطرته عليه عقب عبور قواته نهر الفرات، مما يُدلّل على اقتسام الشّرق السّوري بين الولايات المتحدة وروسيا: فالشّامية للروس، والجزيرة - حيث النّفط - للولايات المتحدة.
أما التّطور الثّالث الذي يُنبِئ بما سيكون عليه "شعوب سوريا"؛ فيتمثل بإعلان قوات سوريا الديمقراطية مدينة الرقة ضمن الحكم الاتحادي "الفيدرالي" في سوريا اللامركزية، دون ضمِّها لإقليم "روج آفا" الكردي.
ففي مطلع 2018م حيث نهاية تنظيم الدولة عسكريا سيجد الجميع أنفسهم أمام استحقاقات سياسية تعقب سوريا بعد ما يسمى "الإرهاب"، فهل يبقى الأسد لما بعد المرحلة الانتقالية، وهل ستدار سوريا بالدّستور الحالي؟ وهل؟ وهل؟؟ أسئلة كثيرة تحتاج لإجابات من القوى الفاعلة في الأزمة السّورية. فنحن اليوم أمام ثلاث قوى بارزة تتمثل بالنّظام السّوري المدعوم من روسيا وإيران، والكرد المدعومين من الولايات المتحدة، وقوى الثّورة المُقسّمة بين دعم تركي شمالا، ودعم عربي تقف وراءه الولايات المتحدة جنوبا.
هذه التّقسيمات لا تسمح للسوريين - للأسف - بتقرير مصيرهم ورسم مستقبلهم، ولا سيما أنّ دولا ساهمت وتُساهم في ضرب النسيج الوطني، ومنها روسيا التي تعمل وفق أجندة عرقية وطائفية لم يعرفها ويألفها السوريون عبر تاريخهم الحديث والقديم. وبما أنّ مناطق خفض التصعيد التي هندسها وأشرف عليها ونفذها الروس؛ باتت - وفق بوتين - مصدر قلق، ويُخشى أن تؤدي لتقسيم سوريا، كان لا بدّ وفق المنظور الروسي من وجود "مقترح بعقد مؤتمر لجميع السوريين يشمل كل الجماعات العرقيّة"، وهذا ما هدف له أستانة و"شعوب سوريا" وفق الزعم الروسي.
لقد مهدت روسيا للمؤتمر بالموافقة على سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق الغنيّة بالنفط، وإبقاء مناطق الغاز (حمص، الساحل) تحت نفوذها، فيكون النفط من نصيب الولايات المتحدة، والغاز من نصيب روسيا، وإرضاء الأتراك بدخول إدلب لمنع إقليم انفصالي كردي، وإرضاء الكرد بإدارة ذاتية ضمن نظام فيدرالي دون الانفصال عن سوريا.
ويتوقع أن يُوصي "شعوب سوريا" بحكم اتحادي "فيدرالي" تكون سلطة الرّئيس والحكومة المركزية رمزية، ويُترك الجانب الأمني والمدني والخدمي لإدارات الأقاليم، وهذا يُمهد لرحيل الأسد عقب المرحلة الانتقالية، وهذا ما يوضّحه كلام وزير خارجية أمريكا تيلرسون بأنّ بشار الأسد وأسرته ليس لهم دور في مستقبل سوريا، وأن عهد أسرة الأسد يقترب من نهايته، والقضية الوحيدة هي كيفيّة تحقيق ذلك. وذلك سيتحقق من خلال "شعوب سوريا" وما يشبهه. ويبقى السؤال الكبير أين مصلحة السوريين؟ وهل رحيل الأسد مطلبهم، أم وسيلة لمطلب لم ولن يُسمح لهم بنواله على غرار شعوب الربيع العربي؟