رغم اختلاف وتنوع منطلقاتها السياسية واتجاهاتها الإيديولوجية، أظهرت مكونات الصحافة الألمانية في معظمها تعاطيا موحدا مع استفتائي تقرير المصير في كل من كردستان العراق، الذي تم في الخامس والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر الفائت، وفي منطقة
كتالونيا الذي أُجري مطلع هذا الشهر. أكثر من هذا، فقد اتسم هذا التعاطي الإعلامي بازدواجية ملفتة للنظر، فبينما أجمعت جُل التوجهات الإعلامية الألمانية في نبرة إيجابية على الحق الطبيعي لأكراد العراق في تقرير مصيرهم الذي تنص عليه القوانين الدولية، ظهر تعاطيها مع
استفتاء تقرير المصير في كتالونيا مغايرا تماما، بل وسلبيا إلى أبعد الحدود، كما لو أن الحق في تقرير المصير لم يعد له مكان داخل ديمقراطيات الاتحاد الأوروبي، في حين أنه صار متاحا فقط خارج رقعة
أوروبا الغربية، مثل تيمور الشرقية وجنوب السودان وحاليا كردستان العراق.
وعلى الرغم من أن الخارجية الألمانية قد أبدت تحفظها، ولو بشكل مقتضب، بأن انفصال إقليم كردستان العراق قد يمثل خطوة نحو زيادة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الصحافة الألمانية كان لها موقف مخالف بشكل بارز لهذا التوجه السياسي الرسمي لألمانيا، حيث أظهرت تعاطفا، بل وتأييدا لهذه الخطوة أحادية الجانب، حيث وصف موقع "دويتشه فيله" استقلال كردستان بأنه "حلم
الأكراد"، في حين شددت صحيفة "سوددويتشه تسايتونغ" على أن "من يتجاهل الاستفتاء لن يتمكن من حل مشاكل العراق"، بينما رأت صحيفة "ديفلت" أنه "يتعين على الغرب مساندة أكراد العراق الذي وقفوا ضد داعش، فنحن ندين لهذا الشعب بأمننا"، بحسب تعبيرها، بل قامت هذه الصحيفة بنشر رسالة مفتوحة كتبها رئيس منظمة كردية بألمانيا؛ إلى المستشارة الألمانية يحثها فيها على دعم "الاستقلال" الكردي عن العراق، بينما أشارت صحيفة "تاغستسايتونغ" إلى أن تخلي أكراد العراق عن الانفصال صار أمرا ليس واقعيا، حيث قالت: "أن يقبل الأكراد مجددا بالوضع القائم بعدما تخلت عنهم الدولة لوحدهم في محاربة تنظيم داعش وليس لها ما تقدمه لهم؛ فهذا يبقى غير واقعي".
ويظهر أن هذا التأييدالإعلامي للانفصال الكردي قد تخطى الحدود الألمانية، فصحيفة "تسوريشره تسايتونغ" السويسرية الناطقة بالألمانية؛ كتبت أن "الأكراد في شمالي العراق يستحقون دولة خاصة بهم".
وهنا يُلاحظ أيضا تركيز الصحافة الألمانية على الموقف التركي من "المسألة الكردية" أكثر من الموقف الإيراني، بل والعراقي ذاته، مُوظفة عبارات وجملا تعكس "عُنفية" ردة الفعل التركي تجاه خطوة الاستفتاء "السلمية" نحو "دولة كردية"، من مثل:" التهديدات التركية" و"أوردغان يجدد توعده لأكراد العراق".
لكن بعد أسبوع فقط على الاستفتاء الكردي تغيرت نظرة الصحافة الألمانية رأس على عقب لحق تقرير المصير ذاته؛ ظهر في تعاطيها السلبي، بل والرافض للاستفتاء الكتلاني ونتائجه، حيث اعتبرت صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه" أن "حق تقرير المصير لا يعني الانفصال". وفي نفس السياق نشر موقع "دويتشه فيله" مقالا عنوانه: "ليس هناك حق للانفصال في القانون الدولي"، جاء فيه: "رغم أن حق الشعوب في تقرير مصيرها مبدأ أساسي في القانون الدولي، إلا أن الحفاظ على وحدة أراضي أي دولة لا يقل أهمية عن ذلك"، مضيفة أنه "في القانون الدولي ليس هناك حق للانفصال ما لم يتفق الطرفان عليه، وهذا ما ينطبق على كتالونيا". وهنا يحق للمرء أن يتساءل: وهل اتفق الطرفان العراقي والكردي على إجراء الاستفتاء الكردي الذي اعتبرته من قبل الصحافة الألمانية ذاتها حقا ديمقراطيا؟
إضافة إلى هذا الجانب القانوني الذي أسهبت فيه الصحافة الألمانية بُغية تبرير رفضها للاستفتاء الكتلاني، ركزت أيضا على البعد الاقتصادي الذي توظفه ألمانيا ومعها دول الاتحاد الأوروبي كتهديد موجه إلى حكومة كتالونيا من أجل ثنيها عن اعلان استقلالها رسميا، حيث أشار موقع "دير شبيغل أونلاين" إلى أن الفناء الاقتصادي يتهدد كتالونيا بسبب هروب رؤوس الأموال والاستثمارات الألمانية في حالة اعلان "الانفصال". وإلى جانب وقوف الصحافة الألمانية في صف الحكومة الإسبانية المركزية ضد حكومة كتالونيا المحلية بشكل واضح، عكستها أيضا تغطيتها المكثفة للمظاهرات المناهضة التي نُظمت أسبوعا بعد الاستفتاء، شددت على ضرورة تدخل الاتحاد الأوروبي فيما أسمته بـ"الأزمة الكتلانية"، حيث كتبت صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه":"إسبانيا في أزمة، رجاءً تدخلوا"، في حيت تساءلت جريدة "دي فلت" :"متى يتدخل الاتحاد الأوروبي".
والمُلاحظ هنا أن الصحافة الألمانية لم تُوظف بطبيعة الحال عبارات تأييدية مثل "الشعب الكتلاني" أو "الدولة الكتلانية"، كما في تعاطيها المنحاز لقضية الاستفتاء الكردي، بل استخدمت توصيفات صريحة في رفضها لاستقلال كتالونيا عن المملكة الإسبانية مثل "الانفصال" بدلا من "الاستقلال"، و"الانفصاليون الكتلان"، إضافة إلى الإصرار على توصيف كتالونيا من كونها "منطقة إسبانية"، في تجريد واضح لخصوصيتها الكتلانية. أكثر من هذا كله: اعتبرت مجلة "دير شبيغل" أن الاستفتاء الكلاتني هو ذاته "اعتداء على الديمقراطية".
هو إذن موقف موحد في رفضه لانفصال هذه المنطقة الأوروبية، لأنه يبدو أن الانفصالات داخل رقعة الاتحاد الأوروبي أمر غير مرغوب فيها بدعوى وحدة الأراضي لدول أوروبا الغربية التي تجتاز الآن مجتمعة امتحانا ديمقراطيا عسيرا في كتالونيا، وربما مستقبلا في مناطق أوروبية أخرى، مثل منطقة الباسك وأسكتلندا وكورسيكا ومنطقة الفلاندرز، بل وحتى في منطقة بافاريا الألمانية نفسها. فهل وحدة الأراضي لكل من العراق وتركيا ليست بذات الأهمية والقيمة، بل وفي منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط؟ وهل حق تقرير المصير كإجراء ديمقراطي معمول به لتقرير مصير شعوب ومناطق عدة من العالم؛ صار مرفوضا في أوروبا الغربية "الديمقراطية"؟
تُظهر هذه الازدواجية الإعلامية الألمانية كيف أن الديمقراطية ذاتها صارت تُكال بمكيالين في عقر الدار الأوروبية؛ التي أكدت من جديد مدى انتقائيتها في التعاطي المصلحي الضيق مع المبادئ الكونية للديمقراطية.