ما يبعث على الاستغراب، تأييد شريحة لا بأس بها من الفقراء المسحوقين
للاستبداد الذي أفقرهم وأذلّهم. وما يزيد الغرابة؛ استماتتهم وتضحيتهم بدمائهم
وأرواحهم فداء للمستبد، فمعظم الشّبيحة في
سوريا والبلطجيّة في مصر من الفقراء
المسحوقين، ولا نعني قادتهم وزعماءهم، إنّما السّواد الأعظم للعناصر.
من
يتتبّع طريقة إفقارهم يتبدّد أمام ناظريه هذا الاستغراب، فقد عمل
الاستبداد طويلا
على تغييب آدميتهم وإنسانيتهم ليكونوا أدوات تحمي منظومة الاستبداد وتذود عنه.
فالاستبداد
منظومة متكاملة تُسيِّر المجتمع ومقدّراته وفقا لمصالح المستبد وأهوائه، سواء أكان
المستبد فردا أو جماعة حزبيّة تحكم البلاد وفق رؤيتها. فالاستبداد خلافا لما يعتقد
كثيرون، فإنّه يقوم في زماننا على التّخطيط والتّنظيم المُحكم، وليس مدار الحديث
الآن عن التّخطيط الأمني الذي لا تخفى ملامحه ونتائجه في معظم بلادنا العربيّة،
إنّما الحديث عن "
الفقر". فالفقر في دول الاستبداد مُنظّم وممنهج
ومقصود، هدفه ترسيخ سلطة الاستبداد والإعلاء من مكانة المستبد من خلال إشغال أبناء
المجتمع بفقرهم وعوزهم. ولو صرف المستبدّون جزءا من هذا التّخطيط والتّنظيم في
التّنمية والإعمار للحقنا بركب الأمم المتحضرة، وقبرنا الفقر لكنّ مهمة المستبد -للأسف-
لا علاقة لها ببناء الأوطان. والأمثلة واضحة أمامنا، ولا يخفى علينا التّجربتان
السّوريّة والمصريّة، فالفقر سمة غالبة رغم الموارد الطّبيعية والمساحة الجغرافيّة
والإمكانات العلميّة والبشريّة. فما يتوفّر في البلدين كاف لجعلهما في عداد الدّول
المتقدمة الجاذبة لا الطاردة، لكنّ تخطيط الاستبداد ركّز على إفقار البلدين وفق
خطط ممنهجة.
ففي
سوريا تشير الأرقام لانطلاقة اقتصاديّة مُبشِّرة أعقبت استقلال البلاد، حيث بدا
مستقبل السّوريين واعدا، لدرجة أنّ مهاتير محمّد رئيس وزراء ماليزيا تمنّى أن تكون
ماليزيا مثل دمشق، عندما زارها أواسط الخمسينيات من القرن الماضي.
لكنّ
الاستبداد قاد البلاد باتّجاه معاكس، حيث بدأت خطط الإفقار مع قانوني التأميم
والإصلاح الزراعي، اللذين شكلا البوابة لسرقة أموال الشّعب بطريقة قانونيّة، حيث
شمل التّأميم، إضافة للمصانع الضّخمة، منشآت وورشات صغيرة، وكثيرا منها شركات
مساهمة. وكان التّأميم مدروسا بشكل يعوق التّنمية الموعودة من جهة، ويمهد الطريق
لحصر المال في يد معينة تدور في فلك المستبد. فقد كان من واجب السّلطة تشريع
القوانين لحماية العاملين في هذه المنشآت وخلق البيئة الاستثمارية، وإقامة مشاريع
أكثر تطورا، لا التّسلط على أرزاق الشّعب بدعوى إنصاف العمال والفلاحين وصغار
الكسبة.
كان
هدف التّأميم سياسيا لا علاقة له ببناء الوطن من قريب أو بعيد، فقد أدركت سلطة
الاستبداد أنّ تحرر المواطنين الاقتصادي وسياسة السّوق المفتوحة ستقود لانفتاح
سياسي يكبّل الاستبداد فكان لا بدّ من احتكار المال في يد فئة موثوقة. وهذا ما
حصل، إذ استحوذت الدّولة "المستبد" على كل شيء، فتعطلت عجلة الاقتصاد،
وانتشر الفقر، حيث هربت رؤوس الأموال الوطنيّة، وأُديرت المؤسسات الناشئة
والمستولى عليها من شخصيات لا تتمتع بأدنى معايير الكفاءة الإداريّة والاقتصاديّة،
ممّا أسهم بازدياد الفقر، حيث الأرضيّة الخصبة للاستبداد.
واستمرّ
المخطط.. فبعد أن أحكم نظام الاستبداد السّيطرة على مقدرات البلاد، ظهرت
إمبراطوريات ماليّة أكثر ثراء ممّا كان قبل التّأميم، واتّسمت الإمبراطوريات
الجديدة (رامي مخلوف، أحمد عز...) بارتباطها بسلطة الاستبداد، وتفصيل القوانين على
مقاسها، وإعطائها حصريّة المشاريع الربحيّة المضمونة، وغياب عين المحاسبة بكافة
أنواعها عن نشاطاتها، فالمستبد ومن يلوذ به خارج دائرة المحاسبة في دولة الاستبداد.
ورغم
خلفيّة الانفتاح وطبيعته القذرة وأهدافه المشبوهة، إلّا أنّه خلق هامشا من النّشاط
الاقتصادي الحر؛ مهّد لاحقا لنوع من انفتاح سياسي حاول الاستبداد تعطيله بقانون
التّأميم سابقا، لكنّه اليوم لن يؤمّم أمواله.
أسهم
هذا الانفتاح في تشكيل نوع من الوعي السّياسي الجديد، بعيدا عن الشّعارات
الشّعبوية التي استخدمها الاستبداد عقودا. وكانت هذه الشّعارات مناسبة للفقراء
المسحوقين؛ فقراء صنعهم الاستبداد صناعة ليتغذّى على فقرهم وآلامهم، فالفقر مستنقع
الرذائل والتّسفُّل. ولا نقصد هنا الإنسان الفقير، إنّما نعني الفقر باعتباره
ظاهرة اجتماعيّة صنعها الاستبداد لتغييب الوعي وإشغال الناس بجهلهم ولقمة عيشهم،
وجعلهم عبيدا للمستبد المُحسن الذي يجود عليهم بالمنح والعطايا بين فترة وأخرى،
وكأنّها من جيبه الخاص، وبذلك يكون الشّعب بعيدا عن حقوقه الأسمى ومنها الحقوق
السّياسيّة.
لعب
هذا الانفتاح دورا إيجابيا في ثورات الرّبيع العربي، وقادت الفئات المتوسطة الحراك
الثّوري، وبصّرت الشّعب الفقير بالحقائق، وعرّفته حقيقة الاستبداد ودوره في صناعة
فقره وحرمانه، فكانت ثورات شعب تتطلع للخلاص.
اهتزّ
كيان الاستبداد، وأدرك أنّ ساعته قد حانت، فحاول إعادة الكرّة من جديد، فنهج
سياسات جديدة لإفقار الشّعب بعيدا عن التأميم بهدف إعادته لحظيرة العبوديّة، فوضع
خططا اقتصاديّة ادّعى -كذبا- أنّها ستحقق الرّخاء الاقتصادي، لكنّه لم يدرك أنّ
الزمن تغيّر، فقد وعى الشّعب الحقيقة. وستدفع محاولات الإفقار الجديدة لثورات أعنف
وأشد من سابقتها، إذ ستستفيد من التّجربة الثّوريّة التي لم تنتهِ.