كنا في الجزء الأول من المقال قد فصلنا أغلب العناصر الحجاجية التي يعتمدها النهضويون والمتعاطفون معهم لتبرير/تفسير سياسة التوافق بين حركة النهضة وحركة نداء تونس. وسنحاول في هذا الجزء الثاني محاورة تلك العناصر والوقوف على "الرمال المتحركة" بين التفسير والتبرير.
لو أردنا أن نقف على حجر الزاوية في النسق الحجاجي المدافع عن التوافق عند النهضة، ولو أردنا أن نرد مجمل العناصر الحجاجية إلى عنصر أصلي تُشتق منه سائر العناصر الأخرى-من مثل غياب الشريك الجدي والمؤثر داخل القوى الثورية، قوة اليسار الاستئصالي واستمرار احتكامه لمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي، انحياز النخب كلها إلى منطق استمرارية الدولة وتهميش أطروحات القطيعة الجذرية مع النظام السابق، هشاشة الوضع الاقتصادي والأمني وارتفاع كلفة انحياز النهضة للمعارضة، الخ-، لو أردنا فعل ذلك لقلنا إن الحجة الأهم عند أنصار التوافق هي انعدام البدائل أو استحالة إدارة نتائج انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية من منظور مختلف دون أن يكون له كلفة أعلى من كلفة التوافق-على علاّته التي لا يجدون حرجا في الاعتراف بها-.
ورغم أن نداء تونس قد أقام حملته الانتخابية على أساس "المفاصلة السياسية" بينه وبين النهضة-باعتبارهما كما قال السيد الباجي قائد السبسي: "خطّان متوازيان لا يلتقيان"-، ورغم أن النهضة قد أقامت حملتها على أساس "المفاصلة الايديولوجية" بينها وبين النداء وزعيمه- باعتبارهما كما قال السيد راشد الغنوشي:" أخطر من السلفية الجهادية"، رغم كل هذه المزايدات الانتخابية أو التطمينات الضرورية لقواعد الحزبين الانتخابية، فإنّ التوافق بينهما كان هو الخيار الذي مضى فيه كلا الحزبين. إنه خيار براغماتي كلّف –رغم استمرار"التوتّر السطحي" بين الحركتين- أضرارا كبيرة في مستوى القاعدة الانتخابية النهضوية وفي مستوى البنية الحزبية للنداء ذاته –إذ انقسم إلى عدّة "شقوق" جعلته يفقد الأغلبية البرلمانية لكن دون أن ينعكس ذلك في مستوى التمثيل الحكومي.
يمكننا بشيء من التوسّع أن نقول إنّ السياسة ذاتها-في مجال ديمقراطي يحتكم إلى الإرادة الشعبية الحقيقية لا المزوّرة- ستكون فعلا مستحيلا بدون "توافقات". فغياب التسلطية أو أحادية الصوت، وتعدد مراكز الثقل السياسي، وتحييد أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية في عملية الصراع السياسي، كل ذلك سيجعل من العسير على أي طرف أن يحكم بمفرده، أي دون المرور بتوافقات تعكسها حكومات ائتلافية أو حكومات وحدة وطنية.
ولا يعني ما تقدّم إلا استحالة انبثاق حقل سياسي ديمقراطي "طبيعي" – أي حقل سياسي لا يسيطر عليه "الزعيم الملهم" عبر الحزب الواحد أو الطغمة العسكرية-إلا بحصول توافقات بين أهم الفاعلين الجماعيين-وليس فقط بين الفاعلين السياسيين-. فالتوافقات الحزبية هي مظهر جزئي من المفروض –نظريا على الأقل- أن تتنزّل ضمن توافقات أكبر وأعمق تكون بين النخب كلها: توافقات اختيارية واستراتيجية على "مشروع وطني" يعيد بناء العلاقة بين المرجعيات المختلفة أو المتناقضة بين "الشركاء"، ويجعلها تتنافس ضمن شروط جديدة للفعل السياسي مابعد-الاستبدادي. وهو ما يجعلنا نطرح بالضرورة وجود "مشروع وطني" حقيقي تكون سياسات "التوافق" جزءا من آليات بنائه-أو جزءا من آليات كبحه وتعطيله-.
بحكم أهمية التاريخ في فهم الحاضر ، قد يكون علينا العودة قليلا إلى الوراء، وبالتحديد إلى بدايات تشكل المنظومة النوفمبرية التي قامت عليها الثورة. إنّ دخول حركة النهضة للعمل السياسي ومشاركتها في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 –مع تزكيتها للمخلوع بن علي مرشّحا أوحد للانتخابات الرئاسية وسعيها إلى تشكيل جبهة انتخابية تضم الموقّعين على الميثاق الوطني الممضى سنة 1988، كما هو مثبت في الموقع الرسمي لحركة النهضة ذاته-، كان بمعنى من المعاني شكلا من أشكال "التوافق" المجهضة، أو لنقل كان إمكانا تاريخيا ساهمت عدة عوامل محلية وإقليمية في إفشاله. ولا يعني ما تقدم إلا النتيجة التالية: إننا أمام إرادة "توافقية" أصلية تحكم حركة النهضة، وهو معطى ينبغي أن نستعين به في فهم سياسة التوافق النهضوية بعد ثورة 17 ديسمبر المجيدة.
لقد دخلت حركة النهضة معترك الحياة السياسية "القانونية" في دولة تابعة، دولة كان دور نخبتها السياسية-ومازال- هو "إدارة التخلف" وتسويقه تحت مسميات إيديولوجية مخادعة : النمط المجتمعي التونسي، الاستثناء التونسي، المعجزة التونسية، وغير ذلك من المسمّيات التي تدور على غير أسمائها. ولا شكّ في أنّ حركة النهضة التي هي حركة إصلاحية بالأساس لم تكن تطرح على نفسها يوما تثوير هذا الواقع أو الدفع به إلى تناقضاته القصوى تمهيدا لتجاوزه. فالنهضة –في مختلف مراحلها التي تقلبت فيها بين الإسلام الاحتجاجي والإسلام الوظيفي - تبقى حركة إصلاحية ليبرالية يمكنها إيجاد ألف تبرير/تفسير "للتوافق" مع النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة. إنها "قابلية توافقية" لا يمكننا حصر أسبابها في العوامل المباشرة أو العوامل القريبة سواء أكانت فكرية أو موضوعية، بل ينبغي علينا البحث عن أسبابها العميقة في بنية العقل السياسي السُّني ذاته، ذلك العقل الذي تربطه بالسياسات السلطانية وبمرايا الملوك والتراث الامبراطوري ألف علاقة ظاهرة وخفية. وقد يكون لنا عودة إلى هذه الإشكالية في مقال مفرد بإذن الله.
إنّ التسليم للنهضويين بصوابية انتهاجهم سياسة التوافق–بل حتى التسليم لهم جدلا بكونه البديل الأوحد عن الاحتراب الأهلي سواء في زمن بن علي أو في زمن الأستاذ قائد السبسي-، لا يعني بالضرورة الموافقة على ما يخلصون إليه من نتائج بناء على هذه المقدّمات "الجدلية". فأن يكون التوافق هو الآلية الأمثل لتجسيد الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين هو أمر لا يمكن الطعن في "تقدميته"، ولكنّ كيفية إدارة ذلك التوافق من طرف الحزبين الكبيرين –سواء احتكمنا في ذلك إلى استحقاقات الثورة أو إلزامات الدستور والقانون- ستجعلنا أمام ما يناقض تلك "التقدمية" المفترضة، لأننا سنجد أنفسنا أمام استراتيجية الدولة العميقة لاستعادة سيطرتها على الشأن العام باعتماد "الديمقراطية الصورية". فنحن واقعيا أمام عودة نسقية لمجمل سياسات المخلوع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل أمام عودة مُمنهجة لأزلامه الذين كانوا في الصف الأول من نظامه إلى يوم هروبه.
منذ تأسيس التجمع الدستوري الديمقراطي ولجان تفكيره التي أشرفت على سياسات "تجفيف منابع الإرهاب" أو بالأحرى منابع الدين ذاته، قام نظام بن علي هو الآخر على شكل من أشكال التوافق: توافق بين الطُغمة الحاكمة وبين اليسار الثقافي من أجل القضاء على النهضة. فكانت المنظومة الحاكمة تتشكل واقعيا من جناحين: جناح ليبرالي (ذو منحدرات جهوية معروفة) كان يمثل النواة الصلبة للدولة، وجناج يساري قبل أن يدخل في السلطة أو أن يعمل على إنجاح سياساتها الاستئصالية من مواقع "المعارضة" القانونية أو حتى الراديكالية للنظام. وبصرف النظر عن الأسس النظرية التي قام عليها هذا التوافق وعن مآلاته الكارثية، فإنه قد مثّل خيارا استراتيجيا لأغلب النخب "اليسارية" خلال عهد المخلوع، وهو خيار كانت ضحيته الأساسية هي حركة النهضة-ومن بعدها مجمل الحقل السياسي الذي تم تصحيره بمعارضة كرتونية من جهة أولى، وبقبضة أمنية باطشة من جهة ثانية-.
في خاتمة هذا المقال، قد يكون علينا أن نطرح سؤالا مفصليا تتعمد النخب العلمانية والإسلامية على حد سواء تهميشه والدفع به إلى دائرة اللامفكر فيه: في بلاد تابعة، هل يمكن للنخب الاسلامية واليسارية التي تُصر على تضخيم التناقض الهووي الثقافوي بينها-وتهميش التناقض الجذري بل "الوجودي" مع ورثة منظومة الفساد والاستبداد- أن تكون أكثر من "مجموعة وظيفية" عند النواة الصلبة لتلك المنظومة؟ ولو أردنا صياغة هذا السؤال بصورة مختلفة لقلنا: أليست سياسات التوافق في المخلوع عهد بن علي (بينه وبين اليسار الوظيفي) وفي عهد الباجي قائد السبسي (بينه وبين النهضة) علامة على فشل التَّونسة التي وقعت للسرديات الكبرى على مقاس النواة الصلبة للمنظومة وأسيادها في الغرب؟ إنه سؤال قد يكون علينا التعامل معه بجدية إن نحن أردنا مساعدة الإيديولوجيات الكبرى (بإسلاميها وعلمانيها) من مفارقة دور مجرد كوابح الصدمات أو الطوابير الخامسة المُدجنة جيدا من لدن المنظومة الحاكمة بمختلف لحظاتها الدستورية والتجمعية والندائية.
نفهم من هذا أن قطب الرحى أو محورها هو العائلة الدستورية مسنودة في كل محطة بطرف فكما لعب اليسار ظوره في أسند منظومة المخلوع يلعب الإسلاميون نفس الدور في اللحظة الراهنة فكأنما الثورة قامت على الهامش و ليس على المحور