ليست قضية جزيرتي تيران وصنافير قضية تتبع القانون الدولي أو "السيادة" الشكلية القانونية، بل كانت دائما، وبناء على المعطيات الواردة في محاججات كل الأطراف وأولها محاججات سلطة السيسي التي تسعى بحماس يفوق حماس أي حكومات سابقة بما في ذلك خلال نظام حسني مبارك، كانت دائما قضية سياسية بامتياز. وهي الآن أيضا، بتحويل السيادة الرسمية إلى المملكة العربية السعودية أو سعودتها، هي قضية سياسية، تتعلق بنقل تاريخي لمراقبة
مضيق تيران، أي البوابة البحرية الجنوبية للدولة اليهودية من الحراسة المصرية إلى الحراسة السعودية.
ولم يكن التوقيت مصادفة، إذ يأتي في سياق نظام السيسي المؤهل للقيام بكل التنازلات المتخيلة وغير المتخيلة من أجل "الرز" وحماية العرش الهش لحاكمها العسكري، والأهم في سياق متصاعد وثابت نحو إرساء "تحالف إسرائيلي-سعودي" على أسس مصالح اقتصادية متشابكة جوهرها إرساء بديل لقناة السويس، والأهم في سياق تأمين البوابة الإسرائيلية نحو البحر الأحمر بنزع تهديد الجيش المصري الذي يمكن ان يتحول، في سياق الظروف المتأرجحة والقادرة دائما على الالتهاب في مصر، إلى قيادة سياسية جديدة في المستقبل معادية بشكل صريح لإسرائيل مثلما كان الوضع زمن عبد الناصر.
تتعلق قضية الجزيرتين بتوازنات جيوسياسية جوهرية في قلب خط الالتقاء الجغرافي بين الجناحين الآسيوي والإفريقي للمجال العربي. وبمجرد إقامة الدولة اليهودية واحتلالها الأراضي الفلسطينية، وليس بالمصادفة على خط الالتقاء ذلك تحديدا، أصبح هذا الحيز من المجال العربي في أعلى سلم أولويات الأمن القومي العربي. وليس من المصادفة أن يتم التوافق المصري السعودي إثر إعلان دولة إسرائيل وخاصة في مراسلات رسمية سنة 1950 حول إقامة قوة عسكرية مصرية على أراضي الجزيرتين أن يتم في ذلك السياق المتصاعد للكيان المتنافر مع الهوية العربية للمنطقة.
إصرار نظام عبد الناصر على الاحتفاظ بقوات عسكرية هناك رغم اعتراض السعودية عبر مندوبها آنذاك في الأمم المتحدة كان يتم على أساس عدم ضمان التصدي للتهديد الإسرائيلي بقوات عسكرية غير مؤهلة وضعيفة. وكان النظام المصري انذاك يوظف مضيق تيران في سياق لعبة الشطرنج التي سبقت حرب 1967، من أجل محاصرة القوات الإسرائيلية ومنعها من النفاذ إلى البحر الأحمر ومن ثمة تعريض السواحل الشرقية المصرية للتهديد.
الضغط السعودي تواصل بداية التسعينات وما بعدها لكن لم يتحقق اختراق صلب منظومة الحكم غامرت فيه بالتفريط في الجزيرتين إلا بصعود السيسي للحكم. حيث جلب المشير الانقلابي معه دكتاتورية دموية لكن أيضا خطا ثابتا في التفريط في أي أفق جدي مصري في سياق الامن القومي العربي مقابل الهبات و"الرز الخليجي" والقيام بكل شيء لحماية حكمه. إذ كان السيسي ولا يزال حاكما لا وطنيا تحت غبار كثيف من الدعاية العسكرتارية الوطنجية الكاذبة. وكانت أحد عناوين هذا التفريط تصرفه في سيناء بشكل يجعل الجيش المصري خادما وظيفيا للقوات الإسرائيلية، خاصة أن اللوبي الإسرائيلي يقوم بدور المحامي على السيسي في واشنطن، وتحديدا في محاصرة قطاع غزة بشكل لم يتجرأ عليه حتى حسني مبارك. ولم تفعل قضية الجزيرتين إلا فضح هذا التوجه اللاوطني على المكشوف.
ربما يقول البعض في ظل حاكم متذيل مثل هذا في القاهرة لما الحاجة لنقل مضيق تيران للإدارة السعودية؟ المسألة تتعلق باستقرار النظامين المصري والسعودي. مصر التي تعيش غليانا متواصلا لظروف هيكلية تخصها والتي يمكن أن تتم فيها انقلابات سياسية كبرى وهو ما حدث سنة 2011 أقل أمانا من وجهة النظر الإسرائيلية من الممكلة التي يستقر فيها حكم العائلة منذ حوالي أكثر من قرن. والأهم من ذلك أن ملامح تحالف سعودي-إسرائيلي خاصة في إطار مواجهة "العدو الشيعي-الايراني" المشترك بدأت تتوضح خاصة بعد الأزمة الخليجية الأخيرة. يبقى أن أسسها المصلحية الاقتصادية بدأت تتشكل في السنين الأخيرة.
حجر الزاوية في هذه التقارب المصلحي هو المشروع الإسرائيلي القديم المتجدد في إيجاد بديل استراتيجي لقناة السويس. حيث لا تزال الدولة اليهودية تعتبر أن تأميم القناة ضربة أساسية لدورها الوظيفي المركزي في المنطقة. وتم استعادة هذا الحلم القديم في إطار المشروع الصيني الضخم "طريق الحرير"، حيث تموقع الإسرائيليون في سياق نهوض المارد الصيني وحددوا لأنفسهم موقعا في إطار خط سكة حديدية يربط ميناء أشدود بحيفاء ومن ثمة البحر الأحمر بالمتوسط "Red-Med Link". غير أن ربط البحرين ليس مضمونا دون ضمان تأمين مضيق تيران. وسعودة المضيق هي أفضل تأمين له بعيدا عن الاضطرابات المستقبلية المحتملة في مصر.
وقت تكررت التصريحات الإسرائيلية منذ سنوات في هذا الاتجاه وكان آخرها وأكثرها صراحة تلك التي قام بها يسرائيل كاتز وزير النقل وهو أيضا وزير الاستخبارت في حكومة نتنياهو، في شهر أبريل الماضي إثر زيارة ترامب للمنطقة. حيث قدم كاتز هذا المشروع ضمن مفردات واضحة لإعادة صياغة التحالفات في المنطقة. ونقل تقرير لـ"رويترز" ما يلي: "وتحدثت اسرائيل في السنوات الأخيرة عن إمكانية "أفق جديد" مع الدول العربية السنية في المنطقة ومنها السعودية ومصر والأردن والخليج… وفي جزء منه، فإن الهدف من توثيق الروابط هو العمل كحصن ضد نفوذ إيران المنتشر في المنطقة، ولكن هناك أيضا إمكانية زيادة التجارة والأعمال، بما في ذلك مع البلدان التي قد لا تعترف رسميا بإسرائيل، مثل المملكة العربية السعودية."
سعودة مضيق تيران بهذا المعنى هي مسألة سياسية بامتياز. وفي حين كان النظام المصري يتجنب حتى في عهد "السلام" أن يخرج منها لاعتبارات الحد الأدنى من الأمن القومي، أتى نظام السيسي ليحقق الحلم الإسرائيلي، ويفرط فيها لصالح نظام أكثر أمانا من وجهة النظر الاسرائيلية، وبما يحقق تموقعا ووظيفيا نوعيا لتل أبيب، في سياق تحالف قادم قائم على الأصولية الصهيونية والأخرى السنية.