ربما يغفل البعض اليوم الجذور التأسيسية الأولى للحالة الإصلاحية اليمنية الراهنة كامتداد طبيعي للحركة الإصلاحية اليمنية التي تمتد بجذورها حتى القرن الهجري الثالث، كأول مدرسة إصلاحية عربية إسلامية نشأت كردة فعل على التشوه الكبير الذي أصاب جوهر عقيدة الحرية في الإسلام بمقتل، من خلال تحويل الإسلام إلى ما يشبه الميراث الأسري الذي نشأ مع بزوغ فكرة التشيع السياسي والتسنن الأموي والعباسي الذي اختزل الإسلام بقريش من دون الناس.
عانت اليمن كثيراً منذ القرن الثالث الهجري، من نشوء فكرة التشيع السياسي، مع فكرتي الزيدية والإسماعلية، اللتين وجدتا طريقهما مبكراً إلى اليمن، التي كانت تتمتع حينها بهامش استقلال كبير عن سلطة القرار السياسي الأموي فالعباسي، وتشكلت في اليمن دويلات يمنية مستقلة إلى حد كبير عن مركزية القرار السياسي لدمشق وبغداد مما جعلها محط أنظار تيارات التشيع السياسي التي حاولت أن تجد لها موطئ قدم في اليمن وهو ما جعلها في مواجهة دائمة مع اليمنيين الذين ثاروا ضدها مبكراً بالعودة إلى جذورهم القوميةوبيمننةإسلام يتناسب وهويتهم اليمانية القحطانية.
لذا رأينا مبكراً كيف كانت اليمن وصنعاء في مقدمتها محجا ومزاراً لطلاب العلم وأئمة المذاهب لزيارة اليمن وشيوخ العلم فيها الكبار كأبي بكر الحميري عبد الرازق بن همام الصنعاني" 126_211 " هـ، و ومعمر بن راشد البصري مولدا اليماني سكناً،"95_154" هـ، وغيرهم الذين زارهم كبار فقهاء المذاهب كالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم بقصد التتلمذ عليهم وتلقي العلوم منهم، ولا تزال مقولة الشافعي الشهيرة ، "لابد من صنعاء ولو طال السفر"شاهدةً على ريادة المدرسة الإصلاحية اليمنية وجهودها المبكرة في التجديد الديني والفكري على مستوى العالم الإسلامي.
البدايات التأسيسية
رغم أن البدايات الأولى للإصلاحية اليمنية كانت ذات منطلقات دينية بحته مع مدرسة عبد الرازق الصنعاني ومعمر بن راشد وغيرهم، إلا أن المرحلة الثانية من هذه الإصلاحية فقد كانت ذات منطلقات قومية إسلامية عروبية واضحة مع مدرسة أبي محمد الحسن الهمداني الذي بدأ أولى خطواته الإصلاحية رسم حدود واضحة للخصوصيات الدينية والقومية للمجتمعات الإسلامية والتي كانت منطلقاته الجغرافية في كتابه الشهير صفة جزيرة العرب أولى تلك المنطلقات التي كانت ترتكز على دراسة جغرافية الجزيرة العربية وخصوصياتها المجتمعية.
لكن التبلور الأكبر للإصلاحية اليمنية كانت من خلال جدليات لسان اليمن الهمداني مع الزيدية السياسية التي أرادت من خلال داعيها لليمن يحيي بن الحسين الرسي أن يؤسس لحكم سلالي كهنوتي يرتكز على نظريات الحق الإلهي بالحكم الذي يطلق عليه في أدبيات الزيدية بنظرية البطنيين، وهو ما يعني احتكار الحكم لسلالة الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، ومن هنا كانت البدايات الأولى للإصلاحية اليمنية التي رأت أن مثل هذه الأفكار الثيوقراطية للزيدية السياسية، تؤسس لحالة من الاقتتال والصراع الدائم وتهديدا مباشراً للميراث الحضاري للأمة اليمنية الضاربة في جذور التاريخ البشري.
وبحسب الأستاذ مطهر بن علي الإرياني، كاتب مذكرات أخيه الرئيس القاضي عبد الرحمن ج1/ص28 فإن الحسن بن أحمد الهمداني هو المؤسس الأول للمنطلقات الفكرية الوطنية للحركة التحريرية اليمنية الإصلاحية ثم يتلوه الحلقة الثانية من خلال المطرف بن شهاب وعلماء المطرفية الحلقة الثانية فيما يأتي نشوان بن سعيد الحميري بمثابة الحلقة الثالثة، ومن بعد هؤلاء يأتي عدد من كبار العلماء الذين تساموا على المعايير الضيقة وعلى التقاليد.
ويضيف مطهر الإرياني، أن هؤلاء العلماء الذين جاءوا بعدهم مثلوا استمراراً لخط الحركة الإصلاحية اليمنية ومنهم محمد بن إبراهيم الوزير المتوفي 1436م والحسين بن أحمد الجلال المتوفي 1673م ومحمد بن إسماعيل الأمير المتوفي سنة 1769م ومحمد بن علي الشوكاني المتوفي عام 1835 م، وهكذا يمثل هؤلاء الإعلام الكبار طلائع الحركة الإصلاحية اليمنية التي تفتقت معركتها على معارك شتى كانت المعركة الفكرية والثقافية هي الحاضر الأبرز في تكوين هذه الحركة الإصلاحية والتي تمثلت بوضوح كبير من خلال مؤلفات أبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني، ونشوان الحميري وتراث الجماعة المطرفية التي تعرضت للإبادة والقمع وحرقت كل مصنفاتها التي مثلت مرحلة متقدمة علميا على سائر الحركات العلمية في العالم العربي والإسلامي كله.
وهكذا مثلت وكانت ظاهرة التجديد الديني والفقهي والمعرفي واحدة من أهم خصائص الإصلاحية اليمنية التي تجاوزت مربع التقاليد المذهبية والفقهية عدا عن مناهضة الاستبداد السياسي والمعرفي، ومحاربة هاتين ظاهرتي الجمود الفقهي والاستبداد السياسي باعتبارهما أهم مظاهر التخلف والانحطاط البشري.
بل إن جل المدارس الإصلاحية العربية وخاصة فيما بعد القرن التاسع عشر جلها عالة على المدرسة الإصلاحية اليمنية وتراثها الإصلاحي الذي سبقوا به تجديدات رشيد رضى ومحمد عبدة والأفغاني والمدرسة الوهابية في نجد والحجاز، بل كل مدارس التجديد في العالم الإسلامي مدينة بشكل كبير لكتابات الشوكاني وابن الأمير الصنعاني في الحديث والفقه والأصول، لأنه طوال عصور ما بعد القرن السادس الهجري توقفت كل المدراس الفقهية عند شروح السابقين وتوقفوا عن الاجتهاد الذي بقى مدرسة قائمة ومستقلة في اليمن بفعل الخميرة الاعتزالية التي خالطت تراث الزيدية السياسية وتجاوزتها.
المنطلقات الفكرية الإصلاحية
لم تتبلور الحالة الإصلاحية اليمنية في إطار فكري واحد ومتجانس، لأنه لم يسبق لها الانتظام في إطار جماعي موحد منذ البداية باستثناء المرحلة المطرفية التي تم القضاء عليها في مهدها، وبقت الأفكار والمنطلقات النظرية للإصلاحية اليمنية عبارة عن نضالات سياسية ونتاجات فكرية كثيرة من خلال كتابات الحسن الهمداني أو نشوان الحميري أو من سار على نهجهم بعد ذلك، لكن التركيز الكبير من خلال كتابات هذين العلمين كانت جلها تدور حول الهوية القومية اليمنية وعمقها الحضاري الضارب في التاريخ من خلال حضارات ممالك اليمن القديمة من سبأ إلى معين وحمير وأوسان وغيرها من الممالك التي حاولت بعد الإسلام البناء الحضاري على هذه التراث كما حاول الرسوليون والطاهريون والصليحيون مع تفاوت في التوجه.
لكن يبقى المنطلق الأهم هو، مواجهة التشوهات المذهبية الخطيرة التي اقحمت المذاهب في الصراعات السياسية كما كان حال الزيدية السياسية تحديداً والتي كانت محط إجماع من قبل كل الدويلات اليمنية بعد الإسلام باعتبارها خطراً يهدد اليمن ووحدته وهويته اليمنية الموحدة، عدا عن الدفع باليمن للوراء مما مثل انتكاسة كبيرة للحضارة والأمة اليمنية، التي يرى الكثيرون أن الحالة المذهبية المتعلقة بالمذهبية الشيعية السياسية كانت من أهم معوقات التراجع الحضاري لليمن.
وذلك من خلال ما مثلته الزيدية من فكرة طائفية مذهبية عطلت التفكير لدى اليمنيين، وحولت قبائل اليمن الزراعية والصناعية إلى مجرد مقاتلين بالأجر اليومي وأسرى لعقيدة الفيد التي جاءت بها الزيدية، وحلت محل الروح العملية لليمنيين الذين ابتدعوا السدود والمدرجات الزراعية كأول أمة في التاريخ، وحولوا اليمن إلى بلاد العرب السعيدة كما كان يسميها اليونانيون القدماء.
بيد أن الأهم هنا، هو أن الإصلاحية اليمنية اصطدمت منذ البداية بالاستبداد السياسي الذي أصاب الأمة الإسلامية جمعا واليمنية على وجه الخصوص، ولذا حينما نام العالم العربي والإسلامي تحت نير الاستبداد السياسي الذي تسرب إليهم مغلفا بشروح العقائد والمذاهب، التي حولت قضايا الشأن العام من مسألة فقيهة إلى قضية عقائدية، وحولت الحكم إلى عقيدة والحاكم إلى نصف إله، كانت الإصلاحية اليمنية منذ البداية تدير معركتها مع هذه العقائد المغشوشة التي شرعنت الاستبداد والقهر تحت رحمة سوط الحاكم وصراخ المحكومين.
لذا واجه رواد الإصلاحية اليمنية الأوائل السجن والتعذيب والاضطهاد، فصمدوا وثاروا وألفوا الكتب والرسائل تحريضاً على الثورة على الظلم والقهر وكانت مصيرهم كمصاير كثير من المصلحين الشجعان، وحينما كانت تشتد موجات القمع كان يتجه الإصلاحيون اليمنيون الأوائل إلى حقول العلم والاجتهاد فيها وتجديدها وتحريرها من قيود المشعوذين والكهنة الذين حولوا عقائد الناس ومذاهبهم إلى ما يشبه طلاسم لا يفهمها ولا يفسرها إلا خاصة الخاصة من القوم الذين كانوا يتجارون بها.
ولهذا رأينا طوال مرحلة ما بعد القرن الخامس الهجري حينما غفى العالم الإسلامي تحت نير قوالب الجمود المذهبي والتقليد، رأينا كيف صعد أعلام يمنيون مجددون كبار، ملؤوا الأفاق بكتاباتهم ومؤلفاتهم وآرائهم الإصلاحية من ابن الوزير إلى المقبلي والجلال والشوكاني، والذين صارت مؤلفاتهم ملء السمع والبصر في شتى أصقاع العالم الإسلامي، وتخطت اجتهاداتهم كل المدارس الفقهية التقليدية، رصانة وتجديداً.
ما قبل الإصلاحية الجديدة
لقد مثل رواد المدرسة الإصلاحية اليمنية الأوائل مشاعل ضوء استنارت بهم جهود الحركة الوطنية اليمنية الإصلاحية بمختلف منعطفاتها الوطنية والتي مرت بها في مواجهة الظلم والاستبداد وغزاة الداخل والخارج، أو كما يسميهم شاعر اليمن الكبير عبد الله البردوني، "المستعمر الغازي والمستعمر الوطني"، ولهذا كانت كل نضالات الحركة الوطنية اليمنية هي امتداد طبيعي لجهود الإصلاحية اليمنية الأولى والتي ساهمت بشكل كبير في تعبيد الطريق لمن بعدهم والذين لعبوا أدوارا كبيرة سواء على صعيد التنوير المعرفي الذي مثل بذورا ثورية ظلت تنفجر بين فينة وأخرى في وجه المستبدين على الدوام ثورات كان يقودها دائما علماء ومصلحون كثورتي الفقية سعيد 1854م بوسط اليمن وثورة حميد الدينالخزفار في المقاطرة وما جاورها عام 1920م وغيرها من الثورات التي كانت تنطلق من خلفية إصلاحية وطنية بحته.
إلا أن بداية التبلورالأوضح للإصلاحية اليمنية ببعدها السياسي الوطني الحديث، بدأ بشكل كبير مع مدرسة مجلة الحكمة 1938-1941م ورائدها أحمد الوريث،الذي مثل من خلال مجلته مرحلة إصلاحية فارقة ومتقدمة حتى على مدرسة الإخوان فكراً تنويريا وقبلها نادي الإصلاح الأدبي 1935م، وبعدها شباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحركة الأحرار اليمنيين، والجمعية اليمانية الكبرى بعد ذلك، وكل ما صدر عن هذه الكيانات من صحف وأدبيات طوال تلك الفترة، تبلورت كلها وبشكل كبير وتكللت جهودها بالثورة الدستورية في فبراير 1948م التي مثلت مرحلة جديدة للإصلاحية اليمنية بأبعادها السياسية الحديثة كتنظيمات حركية ونضالية.
وكل هذه المسميات والكيانات التي كانت تعكس معنى واحداً وهو الإصلاحية اليمنية بكل أبعادها المعرفية والسياسية والثقافية والوطنية، مشكلةً أولى بذور الهوية الوطنية ببعدها الحديث، والتي ضمت في صفوفها كل معارضي الكهنوت الديني الإمامي شمالاً والاستعماري جنوباً، وكانت عدن والقاهرة محطة مهمة من محطات نضالاتها خلال عقدي الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي.
وليس مصادفة أن تلتقي في تلك المرحلة قبيل ثورة 1948م، كل من الإصلاحية اليمنية والإصلاحية المصرية ممثلة بجماعة الاخوان المسلمين، من خلال مجموعة من اليمنيين الدارسين في القاهرة، هذا الالتقاء الذي مثله كل من الزبيري والنعمان والفضيل الورتلاني ذلك اللقاء الإصلاحي الذي وثقه الأستاذ حميد شحرة في كتابة "مصرع الابتسامة"، ونتج عنه تلك الثورة الدستورية الأولى في الجزيرة العربية، والتي لم يكتب لها النجاح، والتي على ضوئها بدأت مرحلة جديدة للإصلاحية اليمنية، غلب عليها مرحلة الانكفاء حتى ما بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م.
الإصلاحية الجديدة
كان إعلان الوحدة اليمنية التي ارتكست مبكراً، مرحلة فارقة في تاريخ اليمن الحديث، لمدى التحولات الكبيرة التي شهدتها اليمن، والتي كان من أهم ملامحها هو بروز الحالة الإصلاحية الجديدة كحركة سياسية مؤطرة على الساحة اليمنية، كامتداد للمدرسة الإصلاحية اليمنية منذ الانطلاقة الأولى لها في نهاية القرن الهجري الثالث بحسب أدبيات تجمع الإصلاح نفسه.
إلا أن الجديد هو البيان الأخير للإصلاح بمناسبة مرور الذكرى الـ26 لتأسيسه والتي جاءت بصيغة جديدة، لأول مرة وربما ستكون بمثابة وثيقة تأسيسه لمرحلة جديدة، يحاول الإصلاحيون من خلالها التأكيد على جذورهم الأولى ومحاولة منهم تجاوز مرحلة الارتباك السابقة التي طغى فيها الاشتغال الدعوي على الاشتغال البرامجي السياسي، والذي حد كثيراً من انطلاقة الإصلاح كحركة وطنية يمنية خالصة وجعله أكثر التصاقا بالهوية الإسلامية العالمية على حساب هويته الوطنية اليمنية.
وكمراقب، أجدني أجزم أن التحولات الكبيرة التي شهدتها اليمن طوال الخمس سنوات الماضية، والتي انتهت بالانقلاب العسكري على الحكومة الشرعية، والذي استهدف التجمع اليمني للإصلاح تحديداً، كثأر واضح من إسهامات هذه التيار الوطني على مدى أزيد من نصف قرن منذ ثورة 1948م وحتى ثورة 2011م، قد دفعت بالحركة الإصلاحية اليمنية التي تمايزت ببعدها الإسلامي الواضح، إلى مراجعة مسيرتها ومرحلة الانقطاع الكبيرة عن هويتها الوطنية اليمنية الخالصة التي شهدت فراغاً كبيراً تسلل من خلالها الإماميون الجدد واستطاعوا إستعادة إمامتهم من بين أنقاض غياب المشروع الوطني اليمني الجامع.
إذ كانت معوقات ذلك المشروع تكمن في الإشكاليات التي وقعت بها الإصلاحية اليمنية الجديدة كانقطاعها مع تراثها الإصلاحي الوطني الأول، وانحصارها ببعدها الفقهي اللامذهبي الذي مثلته الإصلاحية الشوكانية، وانقطاعها عن البعد الهوياتي القومي لإصلاحية الهمداني والمطرفية ونشوان الحميري، وإصلاحية الحركة الدستورية لثورة 1948م، التي مثلت مرحلة متقدمة كثيراً بالنظر إلى تراجعات إصلاحية ما بعد مايو 1990م المعاقة بسلفية إخوانية أقرب إلى نجد ومصر منها إلى اليمن.