كان يفترض أن يقدم "تسريب
سيناء" الذي بثته قناة مكملين المصرية
المعارضة وثيقة مهمة للمعارضة المصرية للتحرك في كل الاتجاهات، بهدف نزع الشرعية عن نظام
السيسي الذي ظهر مفضوحا في التسريب، وظهر جنوده يمارسون القتل على طريقة العصابات ضد أبناء شعبهم، ولكن المعارضة لم تصح على ما يبدو من صدمة انقلاب 3 يوليو وتبعاتها حتى الآن.
التسريب/ الفضيحة ربما لم يقدم جديدا حول ممارسات النظام لمن يعرف طبيعته الدموية، ولكنه في نفس الوقت يمثل وثيقة بالصوت والصورة عن هذه الممارسات، لدرجة أن بعض أبواق النظام امتنعت عن نفي ما جاء في التسريب، ولجأت بدلا من ذلك للدفاع عن القتل العشوائي لأبناء سيناء، من خلال القول إن هؤلاء الضحايا إرهابيون ويستحقون القتل.
ويمكن القول إن الجانب الإعلامي الذي يهدف لتوعية
الشعب المصري بطبيعة النظام الدموية "العصابية" قد حقق نجاحات جيدة من خلال التسريب، إذ مثل الفيديو الذي نشرته "مكملين" رواية أخرى مخالفة للرواية الرسمية المصرية، وقد وصلت هذه الرواية إلى قطاعات عريضة من الشعب بدون شك عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة.
أما على صعيد استثمار التسريب سياسيا في زيادة الضغط على نظام السيسي، فالوضع مختلف تماما!
اعتمدت اثنتان من أهم المنظمات الحقوقية الدولية هما هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية على التسريب، وأصدرتا تقارير شديدة اللهجة تندد بسياسة القتل خارج القانون التي تمارسها قوات نظام السيسي، ما يدل على أهمية التسريب وقوته التوثيقية، فيما نشرت صحف غربية كبرى مثل نيويورك تايمز تقارير صحفية حول الفيديو. أما صحيفة الغارديان البريطانية فقد خصصت إحدى افتتاحياتها للحديث عن "غرق نظام الديكتاتور السيسي في صحراء سيناء"، واستندت على التسريب في تحليلها الذي أشارت فيه إلى ضرورة ممارسة الضغوط على النظام من قبل الدول الغربية التي تزعم أنها ترعى حقوق الإنسان.
كل هذه التفاعلات مع التسريب جيدة ومهمة ولكنها ستبقى صرخة في واد، إذا ظلت المعارضة المصرية في الخارج على حالة العجز التي تعاني منها حتى الآن، إذ أن التقارير الصحفية والحقوقية -على أهميتها- تبقى بعيدة عن التأثير الحقيقي في أرض الواقع إذا لم تتحول إلى ضغط حقيقي على الحكومات الغربية التي تتعامل مع نظام السيسي، وهذا الضغط لن يحدث إذا لم تدرك المعارضة آليات الضغط في الأنظمة الديمقراطية، ولم تتحرك وفق هذه الآليات.
أولى هذه الآليات هي مخاطبة البرلمانات العالمية برسائل رسمية من هيئة "البرلمان المصري في الخارج" (هل يسمع أحد بهذا البرلمان بالمناسبة؟). من المعروف أن البرلمانات في غالبية الدول الغربية الديمقراطية تمثل حالة متقدمة على الحكومات تجاه قضايا حقوق الإنسان، إذ أن ارتباطات الحكومات بمصالح "قومية" تجارية وسياسية وأمنية مع أنظمة ديكتاتورية تجعلها تتخلى عن سجل هذه الأنظمة الحقوقي السيء، بينما تعمل البرلمانات بتحرر نسبي من إكراهات المصالح الحكومية، ولذلك فإن مخاطبة أعضاء هذه المجالس الشعبية من قبل البرلمان المصري في الخارج يمكن أن يؤدي إلى صناعة ضغط حقيقي على الحكومات الغربية لإدانة نظام السيسي وعدم منحه الشرعية التي يعمل بجد على بنائها منذ الانقلاب العسكري عام 2013.
أما الآلية الثانية فتتعلق بالضغط القانوني، إذ أن هذا التسريب يمثل وثيقة يمكن أن يستخدمها نشطاء أو محامون لتقديم شكاوى ضد قيادات النظام من سياسيين وعسكريين في بعض الدول الغربية التي يسمح قانونها بملاحقة متهمين بارتكاب جرائم حرب، حتى لو كانت هذه الجرائم ارتكبت في دول أخرى.
وبالطبع فإن مثل هذه الشكاوى لا يمكن أن تتم دون تبني المعارضة في الخارج خيار الملاحقات القانونية كآلية لنزع الشرعية عن النظام، ودون أن تتعاون مع نشطاء وحقوقيين للتحرك بهذا الاتجاه، ولكن حتى الآن يبدو أن المعارضة غير مهتمة بذلك أو غير مدركة لأهميته.
الآلية الثالثة للضغط على نظام السيسي في الخارج تتمثل بإقامة احتجاجات في المناسبات الكبيرة التي تحدث في هذا البلد الأوروبي أو ذاك، والتي تحظى عادة بتغطية إعلامية جيدة بسبب تزامنها مع المناسبات التي تعيشها الدول الغربية. تعيش معظم الدول الأوروبية هذه الأيام مواسم انتخابات عامة ورئاسية، وهي مواسم يمكن الاستفادة منها لتنفيذ احتجاجات في مناطق حيوية تستخدم تسريب سيناء وما نشر عنه من صحف ومنظمات مرموقة كوثيقة، للضغط على الأحزاب المتنافسة في الانتخابات لاتخاذ مواقف قوية ضد نظام السيسي.
وبما أن غالبية الدول الأوروبية حافظت على علاقات جيدة مع نظام السيسي بذريعة أن لها مصالح تجارية معه، تتمثل في صفقات الأسلحة التي يعقدها النظام مع هذه الدول، فإن إحدى الآليات المهمة في ملاحقة نظام السيسي تأتي من خلال تعاون المعارضة المصرية في الخارج مع المنظمات المناهضة للحرب في الدول الغربية المصدرة للسلاح، حيث تنشط هذه المنظمات بشكل كبير، ويمكن لها أن تستفيد من التعاون مع المعارضة المصرية للحصول على زخم أكبر من خلال تقديم وثائق مثل تسريب سيناء للضغط على حكوماتها لوقف صفقات الأسلحة مع نظام السيسي لأنه يستخدمها بارتكاب انتهاكات قد ترقى إلى "جرائم حرب".
إن الدول الغربية الديمقراطية تسمح بممارسة الضغط "Lobbying" كجزء من آليات السياسة والحكم، وكلما اكتسبت المعارضة المصرية في الخارج علاقات جيدة مع المؤسسات النشيطة في عملية "الضغط" كلما استطاعت الاستفادة من هذه الآلية الديمقراطية في التأثير على الحكومات في الدول القوية، للمساهمة في نزع الشرعية عن نظام السيسي.
قد يرى البعض أن تأثير مثل هذه الإجراءات بسيط وغير مؤثر، وهو رأي يمتلك وجاهة ومشروعية بلا شك، ولكن التجربة التاريخية تقول إن إجراءات الضغط تمثل نجاحات تراكمية، ويمكن أن تحدث فرقا مع الوقت، وهذا ما حصل في تجربة نزع الشرعية عن نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" في جنوب إفريقيا، وهذا ما دفع دولة الاحتلال الإسرائيلي أيضا لاعتبار النشاطات المناهضة لها في الغرب خطرا استراتيجيا يأتي في المرتبة الثانية بعد الخطر النووي الإيراني.
معركة الثورة المصرية ومن يمثلها مع النظام هي معركة طويلة، وهي بحاجة لأي إنجاز ولو كان صغيرا، فالإنجازات التي حققها الحراك السياسي في مصر منذ بداية الألفية الثانية هو الذي مهد الطريق أمام إنجاز 25 يناير 2011، والنجاحات الصغيرة التي يمكن أن تحققها المعارضة اليوم هي التي ستمهد الطريق ليناير جديدة، ولو بعد حين.