نقل بعض الساسة الليبيين كلاما نسبوه للمبعوث الأممي لليبيا، مارتن
كوبلر، يُفهم منه أن حث على تقسيم البلاد. وذكروا أن كوبلر تحدث عن كبر مساحة
ليبيا وصغر حجم سكانها وما تتمتع به من ثروات وأنها واقعة في أفريقيا التي سيكون عدد سكانها قريبا أكثر من مليارين نسمة وأن الدول المجاورة يزداد عدد سكانها بشكل كبير.
وقد رجعت إلى نص كلمة كوبلر في اجتماع مجلس الأمن الأربعاء الماضي على موقع البعثة الأممية فلم يتضمن ما تم تناقله. وبرغم أن كلام كوبلر - في حال ثبوت قوله في مناسبة أخرى - يقود إلى ما فهمه البعض، إلا إن حديثه لا يمكن حمله بشكل قطعي على أنه دعوة لتقسيم البلاد، خاصة وأنه يكرر في كل مناسبة ضرورة الحفاظ على وحدة التراب، وأيضا لأن التصريح سيكون فضيحة من المستبعد أن يتورط فيها في هذا الوقت حتى لو كان من أنصار
التقسيم.
بالمقابل فإنه من السذاجة أن نستبعد أن يكون التقسيم خيارا أمام الأطراف الدولية خاصة في ظل تعقد الظروف الداخلية وازدياد التوتر بشكل كبير بين الجبهة الغربية والشرقية. ولاحظوا معي أن الحديث عن سيناريو التقسيم الذي عرضته صحيفة الواشنطن بوست في تقرير مفصل، وسبقها منبر إعلامي إسرائيلي في ذلك، وطرحه شخصية مقربة من ترامب مرشح لتولي منصب رفيع في البيض الأبيض، إنما تم تدويره بعد مرحلة الانقسام السياسي في البلاد في أيلول/ سبتمبر 2014.
بمعنى أنه قبل الحديث عن "مؤامرات الغرب" وخططهم لتقسيم البلاد ونهب ثرواتها، فلنراجع أفعالنا نحن الليبيين في البلاد وفي ثرواتها، ثم نحكم هل التقسيم مشروع غربي تأمري، أم هو اتجاه محلي.
فلنكن صرحاء ولنقل إن التمهيد للتقسيم واقع وهو واقع بأيدي ليبية تحركها نوازع متعددة منها الجهوي ومنها المصلحي الخاص.
العداء المستحكم، والصراع الذي تحول إلى مواجهات عسكرية شرسة، ثم الانقسام في الأجسام السيادية حيث أصبح لكل من الغرب والشرق حكومته وبرلمانه وجيشه ومؤسساته الاقتصادية والإدارية الحيوية، تلك خيارات النخبة الليبية ودافع عنها جمهرة من الليبيين، ولم يدفعنا إليها الغرب، وإن وقع ودفعنا إليها الغربيون فالمسؤولية تقع علينا أولا لأننا رضخنا للضغوط أو استجبنا للإغراءات.
لقد بلغت المشاعر العدائية بين الطرفين مستوى لا يُتصور حتى أصبح استعداء الآخر الخارجي لضرب الخصم الليبي مدعاة للفخر وسببا للحبور، بل رأى البعض أن التحالف مع الشيطان نفسه والاقتراب من دول وأجهزة العداء معها تاريخي وشيء لا بأس به، وستجد مفردات خطاب الكراهية أكثر تشنجا في الداخل منها باتجاه العدو الخارجي.
أما على المستوى السياسي، فقد تخمرت خلال الأربع سنوات الماضية فكرة "برقة الدولة" لدى شريحة ليست بالصغيرة في الشرق الليبي، وتحدث نخبويون عن المقومات الرئيسية للإقليم، فبرقة في نظر هؤلاء لها حدودها الجغرافية التاريخية، وتتمتع بثروات طائلة باعتبار أن نحو 60% من الثروة النفطية تقع في محيطها، ولها عَلَمها الخاص، وشعبها المتجانس، وبالتالي فإنها في حال استقلت فستكون نموذج لدولة متكاملة وقابلة للنمو والتطور.
هذا الوضع صار جزءا من تعقيدات المشهد الليبي وأحد أسباب عرقلة المسار الانتقالي، مع تفاوت في أثره وأهميته لدى الأطراف "البرقاوية" المنخرطة في النزاع السياسي القائم اليوم.
الملاحظ أيضا أن ردة الفعل على هذا الاتجاه الجهوي بدأت تتبلور في المنطقة الغربية وبالذات في العاصمة طرابلس. ولاشك أنه رد فعل محدود ولا يقاس بما هو موجود في المنطقة الشرقية من حيث الزخم والحدة في الخطاب، إلا إن له صدى في بعض المجموعات الشبابية ويتحدث به بعض النشطاء، وأعتقد أنه في اتجاهه إلى التبلور والوضوح على قاعدة أن التأزيم يأتي من الشرق، وأن عرقلة الوفاق من هناك وبالشكل الذي قاد إلى الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، وبالتالي قد يكون من المفيد والمريح الانفصال بأي شكل من الأشكال.
خلاصة القول هو أن العلة فينا قبل أن تكون مؤامرة مدبرة من الخارج ضدنا، لذا ينبغي أن ندرك ذلك ونوقن به ليسهل احتواء الوضع، وأنه حتى في حال تأكد أن ما يجري هو بتخطيط غربي فإنه لن يحقق نتائجه إلا إذا مهدنا له، وتواطأنا لتحقيقه، فالكيد الخارجي لا يمكن أن يكون له أثر إذا صلحت النفوس وصحت العزائم وكانت مصلحة ليبيا فوق كل اعتبار واتجهت جهود الجميع لتجنيب البلاد الويلات، ومنع الانزلاق إلى التقسيم.