لا أخفي أنني انتظرت عزل وزير الداخلية بعد اجتماع مجلس الدفاع الوطني لمناقشة أحداث تفجير كنيستي "الغربية" و"الإسكندرية"، لكن يأبى عبد الفتاح
السيسي إلا أن يفاجئنا بما لم نتوقع في كل مرة!
عندما وقعت تفجيرات الكنيسة "البطرسية" في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، قلت إن هناك احتمالين لا ثالث لهما: الأول، أن يكون الحادث بفعل جماعات مسلحة، وهذا يثبت الفشل الأمني الذريع، بما يستدعي إقالة وزير الداخلية.
والاحتمال الثاني، أن يكون الحادث بفعل أجهزة أمنية، على نحو يذكر بتفجير كنيسة القديسين في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك!
وعندما علمت بتفجير كنيسة "الغربية"، أعدت الكلام ذاته، وهناك سابقتان في هذا الصدد: الأولى، عندما أقيل وزير الداخلية اللواء حسن الألفي من منصبه بسبب أحداث الأقصر بعد منتصف التسعينيات.
والسابقة الثانية، عندما أقال مبارك وزير النقل إبراهيم الدميري بعد حادث احتراق قطار الصعيد، وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن السيسي أعاد تعيين "الدميري" وزيرا للنقل بعد انقلابه العسكري!
رحب البعض بإقالة مدير أمن الغربية، باعتباره المسؤول عن التقصير، قبل أن نقف على أن إقالته لأنه تعرض للاعتداء أمام كنيسة الإسكندرية، وهو لم يُحَل للتقاعد، ولكن جرى إلحاقه بمكتب وزير الداخلية، الذي جرب قوته بمصادرة صحيفة "البوابة" الموالية للانقلاب لأنها طالبت بعزله!
في علم الإجرام، يقولون فتش عن المستفيد من وراء أي جريمة، لأن هذا من شأنه أن يقود إلى الفاعل الأصلي، واللافت أن السيسي هو المستفيد الوحيد من تفجيرات كنيستي "الغربية" و"الإسكندرية".
وتمثلت الاستفادة الأولى، في أن المواقف المنددة بالحادث، بما فيها إدانة الرئيس الأمريكي له، بدت كما لو كانت تأييدا على بياض للسيسي، الذي يواجه الإرهاب، الذي يهدد
مصر، وباعتباره هو مصر.
كما أن السيسي قدم نفسه للمسيحيين بأنه الحامي لهم، وإذا أفلت تفجير أو اثنان فقد حمى الكنائس من تفجيرات أخرى!
الاستفادة الثانية، أن قائد الانقلاب العسكري بدا كما لو كان ينتظر اللحظة، ويتحين الفرصة، لإعادة انتشار الجيش في الشوارع من جديد، دون أن نتعرف على الفراغ الأمني الذي لم تسده الشرطة فجاء الجيش ليسده.
مع أن النقص هو في المعلومات الاستخباراتية التي تسهل عملية منع الجريمة قبل وقوعها، ولسنا حيال "خناقة" في الشارع فشلت الشرطة في إحباطها فتم الدفع بالجيش لتقديم المؤن والذخيرة لها، وهو ما جاء في قرار النزول يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2011، عقب انسحاب الشرطة بسبب نفاد ذخيرتها!
الاستفادة الثالثة: في تمكنه، بسبب هذه التفجيرات، من فرض حالة الطوارئ لثلاثة أشهر، الحد الأقصى المنصوص عليه في المادة (154) من الدستور، حيث لا يجوز له أن يمدها إلا إلى ثلاثة أشهر أخرى فقط، بعد موافقة ثلثي أعضاء برلمانه!
ومعنى فرض حالة الطوارئ، أن القانون العادي أصبح في إجازة، وأن البلاد في حالة استثنائية، يترتب عليها تعطيل النصوص القانونية والدستورية التي تتحدث عن الحريات والحقوق.
وكان دائما يقال إن الهدف من قانون الطوارئ هو منع الجريمة قبل وقوعها، ولا نعرف ما الذي حال دون منع التفجيرات، فالقوانين في مصر في إجازة فعلا دون فرض حالة الطوارئ، ودماء المصريين مستباحة، إذ جرى تصفية كثيرين في بيوتهم، وتم سجن أطفال وفتيات بتهمة العمل على تعطيل الدستور وقلب نظام الحكم!
يبدو لي فرض قانون الطوارئ، ليس لمواجهة خصوم السيسي التقليديين من رافضي الانقلاب، ومؤيدي الشرعية، فهؤلاء يفعل معهم ما يريد في ظل تواطؤ دولي، يتم بالصمت في كثير من الأحيان وبغض الطرف، فهل يواجه السيسي تحديا داخل نظامه، وجد في نزول الجيش للشوارع، وفي فرض حالة الطوارئ، أداة لمواجهة خصومه من الدولة القديمة؟
فلا نغفل أن الفريق أحمد
شفيق لا يزال إلى الآن هاربا في الإمارات، رغم براءته من كل الاتهامات الموجهة إليه بالفساد.
ونحو ذلك في عهد الرئيس محمد مرسي، والرجل لا يأمن بوائق السيسي، ويعلم أنه إذا عاد لمصر فقد تلفق له جرائم يزج به على إثرها في السجن، لأنه منافس حقيقي للسيسي، ويمثل خطرا على حكمه!
كما أن رجال مبارك، ومن يمثلون الدولة العميقة، من رجال أعمال وأعيان وموظفين، صاروا يرون في السيسي خصما، فقد استغلهم ضمن من استغلهم في 30 كانون الثاني/ يونيو، من أجل أن يحكم هو دون أن تعود لهم الدولة، أو يتمكنوا من العودة إلى المجال العام، وهناك من يفكر في الدفع بجمال مبارك للترشح في الانتخابات التي ستجرى في العام المقبل..
وقبل سنة من الآن، رغم أن هناك عقبة قانونية تحول دون ترشحه، وهو حكم الإدانة في قضية القصور الرئاسية!
لست ميالا لنظرية المؤامرة، فلا تمنع استفادة السيسي من التفجيرات، أن يكون ما جرى ينطبق عليه القول "المصادفة خير من ألف ميعاد"، وأنه وجد في تفجير الكنيستين رمية بغير رام، فاستغلها، لا سيما أن تنظيم الدولة "داعش" أعلن مسؤوليته عن التفجيرات!
بيد أن هذا يقودنا إلى أن نتذكر أن التنظيم سبق له أن أعلن عن مسؤوليته في تفجير الكنيسة "البطرسية" في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإذا سلمنا بصحة بيان التنظيم لكان لنا أن ننسف رواية السيسي عن أن الفاعل هو "محمود شفيق محمد مصطفى".
وبالمناسبة، فإن الرجل الوحيد الضحية في هذا التفجير كان هو خادم الكنيسة، وباقي الضحايا من النساء!
ليذكرنا هذا بما هو أهم، وهو أنه إلى الآن لا نعرف ماذا جرى في هذه القضية، فبعد يومين، طيب السيسي خاطر البابا، وانفض السامر، وكتبت في مقالي هنا "قبل أن يذهبوا إلى حادث آخر إياك أن تظن أنهم أجابوا عن سؤال: من فجر الكنيسة؟"!
لكني نسيت المقال، ونسيت التفجير، ولم أتذكره إلا عندما وقع حادث كنيسة "الغربية"، فما هي النتيجة التي توصلت إليها تحقيقات النيابة؟.. وهل هي تدعم ما أكدته مصادر أمنية من أن التفجيرات تمت بثلاثين كيلو من المتفجرات حملتها سيدة في صدرها إلى داخل الكنيسة، أم -في رواية السيسي- إن الجاني ذكر، والعملية تمت بحزام ناسف!
وهل تدعم التحقيقات رواية السيسي من أن الجاني هو "محمود شفيق محمد مصطفى"، الذي سبق اعتقاله بتهمة الانتماء لجماعة
الإخوان المسلمين، أم إنها تدعم رواية تنظيم الدولة التي جاء فيها أنه شخص آخر، ينتمي لداعش، وليس للإخوان؟!
ما علينا، ففي حادث "البطرسية" تم الإعلان عن أن الأمن لم يقصر، والآن فإن استمرار وزير الداخلية في منصبه يؤكد أن الأمن أيضا لم يقصر، على نحو كاشف عن أن هناك تغيرا طرأ في الفقه الجنائي يتمثل في أن الإرهاب قد لا يكون دليلا على قصور أمني، بالتالي فإنه لا معنى لاستدعاء قاعدة "فتش عن المستفيد"..
ففي مصر الانقلاب سقط المنطق، فلا يجوز بالتالي الحديث عن قواعد أو مسلمات!
إننا نطالب بتحقيقات شفافة في ملف تفجيرات الكنائس ومنذ كنيسة القديسين، وعندما يتم تغييب الشفافية قسرا، فليس من حق أحد أن يؤاخذني في شكوكي!
فسوء الظن من حسن الفطن.