نشرت مجلة "ذي أتلانتك" مقالا مطولا للصحافي بيتر بينارت، حول التغريب الذي بدأ يعاني منه
مسلمو أمريكا.
ويبدأ الكاتب مقاله بالقول إن لجنة التخطيط في نيوجيرسي رفضت طلبا لتحويل مخزن قديم إلى مسجد، مشيرا إلى أن "مثل هذا الرفض أصبح حالة متكررة في أنحاء الولايات المتحدة، حيث أنه خلال 10 سنوات من 2000 إلى 2010، تدخل القضاء سبع مرات ضد المجتمعات المحلية التي منعت المسلمين من بناء مسجد أو مؤسسة دينية، لكن هذا الرقم قفز في الفترة ما بين 2010 وحتى 2016 إلى 17 حالة".
ويقول بينارت في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، إن إحدى النساء وصفت الإسلام في اجتماع لجنة التخطيط بــ"ما يسمى الدين"، ويدعي المواطنون بأن الاخوان المسلمين هم من سيسيطرون على المسجد، بالإضافة إلى أن يبرز على صفحة "فيسبوك" "أوقفوا بناء مسجد بايون" رجل يحمل لافتة مكتوب عليها "الديمقراطية أو الشريعة".
ويعلق الكاتب قائلا: "هذه هي لغة فرانك
غافني، الذي عمل سابقا في إدارة ريغان مسؤولا في البنتاغون، ويرأس اليوم مركز دراسات صغيرا يسمى (واشنطن ثينك تانك للسياسات الأمنية)، ويقوم غافني على مدى العقد ونصف الماضيين للترويج لفكرتين مترابطتين؛ الأولى أن الإخوان المسلمين، الذين يسعون، بحسب قوله، لاستبدال الدستور الأمريكي بالشريعة الإسلامية، يسيطرون سريا على معظم المساجد والمنظمات الإسلامية في أمريكا، وثانيا أن الإسلام ليس في الواقع دين بل هو فكر سياسي استبدادي، ولذلك يجب على أتباعه ألا يعاملوا كاليهود والنصارى، بل مثل النازيين الأمريكيين خلال الحرب العالمية الثانية".
ويشير بينارت إلى أنه "طالما سخر محافظو واشنطن من ادعاءات غافني، حيث خسر تأييد الكثير بالتدريج، حتى أن مؤسسة (برادلي فاونديشن)، التي كانت تمول مركزه منذ عام 1988، توقفت عن تمويله عام 2013، حتى أن (ديلي بيست) كتب في كانون الأول/ ديسمبر 2015 أن (فرانك غافني أصبح منبوذا من جميع المحسوبين على دوائر الفكر المحافظ تقريبا)".
ويستدرك الكاتب بأنه "بعد أقل من 18 شهرا أصبح يقود أمريكا رئيس لطالما استشهد بما صدر عن (واشنطن ثينك تانك) لتبرير سياساته تجاه المسلمين، أما المخطط الاستراتيجي الرئيسي للرئيس دونالد
ترامب، ستيف بانون، فوصف غافني بأنه (أحد أكبر رواد الفكر والرجال العاملين في هذه الحرب ضد الإسلام الراديكالي الجهادي)، بالإضافة أن المدعي العام جيف سيشنز، الذي قال إن (الشريعة تتناقض في الأصل مع نظام دستورنا الرائع)‘ فاز عام 2015 بجائزة (المحافظ على الشعلة) من مركز غافني، وظهر مدير وكالة الاستخبارات المركزية على برنامج غافني على الراديو أكثر من 24 مرة منذ عام 2013، أما سباستيان غوركا، الذي يدير مركزا مشابها داخل البيت الأبيض، فإنه ظهر في برنامج غافني على الراديو 18 مرة خلال الفترة ذاتها، وكان وصف الشريعة بأنها (تقيض لقيم هذا الشعب العظيم)، ورفض حديثا أن يقول إن كان يعد الإسلام دينا أم لا".
ويؤكد بينارت أن "المحافظين لم يهمشوا أفكار غافني، وإن كانت أفكاره رفضت في واشنطن، إلا أنها وجدت صدى على مستوى الشارع، خاصة بعد خيبة أمل الأمريكيين في الحروب التي شنتها أمريكا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وتمثل نظريات غافني مجهودا (لتغريب) المسلمين الأمريكيين؛ لنزع هويتهم الوطنية وحمايتهم القانونية، مع وجود سوابق مخيفة في التاريخ الأمريكي والأوروبي، ومع أن لهذه النظريات معارضين بالإضافة للمؤيدين في إدارة ترامب، إلا أنها تغير العلاقة بين المسلمين وحكومتهم بطرق مخيفة".
ويقول الكاتب: "إن نظرت بعين واحدة قد ترى كيف وصل غافني إلى استنتاجاته، فعندما أنشأ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، فإنه أنشأها حقيقة لتقوم بنشر الإسلام في أنحاء العالم ولإحياء الخلافة، لكن العلماء يناقشون كم اختلفت الحركة منذ ذلك الحين، كما يشيرون إلى اختلافها من بلد إلى آخر، وفي تاريخها تبنت العنف أو أقرته، وأشار قادتها إلى أن غير المسلمين لا يستحقون المساواة السياسية، وأقام أعضاؤها حركات إرهابية، بما في ذلك حركة حماس، والإخوان مثلهم مثل الحزب الشيوعي الأمريكي، لهم تاريخ في إنشاء واجهات، فشاركوا في الستينيات في إنشاء اتحاد الطلبة المسلمين، ومنه نشأت بعض المؤسسات الإسلامية الحالية".
ويلفت بينارت إلى أن "التقليل من هجرة المسلمين هو جزء واحد من الجهود التي تبذلها الإدارة، أما الجزء الآخر فهو وسم المسلمين الموجودين في البلاد، بالإضافة إلى ذلك، فإن محكمة صندوق الأرض المقدسة، التي تمت فيها إدانة الموظفين والمسؤولين في أكبر مؤسسة خيرية إسلامية عام 2008؛ لمساعدتهم حركة حماس، وتم إدراج أسماء بعض أكبر المنظمات الإسلامية في أمريكا بصفتهم متآمرين لم تتم إدانتهم، مثل مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية والجمعية الإسلامية لشمال أمريكا".
ويبين الكاتب أنه في تلك المحكمة قدمت الحكومة وثيقة قالت إن أحد الإخوان المسلمين كتبها، حيث وصف الهدف قائلا: "في أمريكا هو نوع من الجهاد الأكبر (الذي يهدف إلى) محو الحضارة الغربية وتدميرها من الداخل"، حيث تدرج تلك المذكرة الجمعية الإسلامية لشمال أمريكا بصفتها إحدى الأدوات، مشيرا إلى أن مركز غافني وصف تلك الوثيقة عام 2013 بأنها "حجر الرشيد" لفهم التخريب الإسلامي في أمريكا.
ويستدرك بينارت قائلا: "إن توقفت عن النظر بعين واحدة فإن نظرية المؤامرة تبدو سخيفة، حيث يشير الخبير في التطرف الإسلامي في جامعة جورج واشنطن، جي أم بيرغر إلى أن (بعض المنظمات الإسلامية نشأت من قبل أو بمساعدة الإخوان المسلمين قبل عقود.. إلا أنه بالنسبة لتلك المنظمات فإن العلاقة تاريخ قديم)، بالإضافة إلى أن المنظمات الإسلامية التي أشير إليها على أنها منظمات متآمرة غير مدانة في قضية صندوق الأرض المقدسة، فإن القضاء أيام بوش أو أوباما لم يوجه إليها أي تهمة بدعم الإرهاب، أما الوثيقة السرية، التي عرضت في تلك المحكمة عن أهداف الإخوان، فإن الخبير في الإخوان المسلمين في جامعة جورج واشنطن قال: (لم يقدم أحد دليلا على كون تلك الوثيقة أكثر من مجرد أحلام يقظة لشخص متحمس)".
ويشبه الكاتب ما يقوله غافني حول سيطرة الإخوان على المؤسسات الإسلامية والمساجد بالقول الشائع في الفترة المكارثية بأن الحزب الشيوعي كان يسيطر على أجزاء كبيرة من واشنطن وهوليوود.
وينوه بينارت إلى أن "غافني –وأعضاء رئيسيين من إدارة ترامب– يعتقدون أن الإخوان المسلمين يشكلون خطرا على أمريكا، وينظرون إلى الشريعة، ليس على أنها تعليمات دينية، بل على أنها (عقيدة استبدادية تلبس كسوة دينية)، ولذلك يجب ألا يعامل المسلمون الذين يلتزمون بها كما يعامل اليهود الذين يلتزمون بالقانون اليهودي (الهالاخاه) أو الكاثوليكيين الملتزمين بالقانون الكنسي، لكن مثل الأمريكيين الذين تبنوا (الشيوعية والفاشية والاشتراكية القومية والإمبريالية اليابانية)، خلال الحرب، أي أنه يجب التعامل معهم على أنهم أناس يسعون لإسقاط الحكومة الأمريكية".
ويذكر الكاتب أن "غافني يجادل بأنه بدلا من حق الحماية بحسب الدستور ومبادئ الحرية الدينية، فإن الشريعة في الواقع هجوم تحريضي على الدستور فيجب علينا محاكمته بدلا من حمايته، ويقول بأن أكثر من 80% من المساجد في أمريكا تؤيد الشريعة فهي على أفضل الأحوال حاضنة على التحريض، وفي أسوأها على العنف، بحسب غافني".
ويقول بينارت: "ليس غريبا إذن أن يردد المعارضون لمسجد بايون لغة غافني، الذي شهد في قضايا محاكم مشهورة لمنع إقامة مساجد، بالإضافة إلى أن مركزه أصدر تقريرا في آذار/ مارس 2015، يعلم فيه الناشطين كيف (يرفعون صوتهم ضد إقامة المزيد من المساجد) في مناطقهم".
ويورد الكاتب أنه "من الجوانب المهمة، فإن ما يعتقده غافني بخصوص المسلمين الأمريكيين ليس جديدا، فهو يشبه نظريات المؤامرة المتعلقة بالأقليات الضعيفة في الماضي، ويحاول أستاذ الجامعة في جامعة ييل، تيموثي شنايدر، إيضاح المسألة، فيقول: (تأخذ جيرانك مثلا وتصنفهم ليس على أنهم من حيث المبدأ جيرانك وزملاؤك في المواطنة، لكن تربطهم بشكل مبدئي بمجتمع أكبر في العالم وأعضاء هذا المجتمع كلهم يحملون الآراء ذاتها، التي تعبر عنها وثيقة سرية.. وطبعا هناك دائما بعض الحقيقة؛ لأن الجميع ينتمون إلى مجموعات تعبر علاقاتها الحدود)، ولدى شنايدر اسم لهذه العملية (denationalization) أو التغريب".
ويبين بينارت أن "شنايدر يضرب مثلا بأنه عندما تسببت سياسة جوزيف ستالين في الثلاثينيات في إقامة المزارع الجماعية بالمجاعات الكبيرة في الاتحاد السوفييتي كان بحاجة لإلقاء اللوم على أحد، فألقى اللوم على الحكومة البولندية المعادية للشيوعية، التي أحرج جيشها ستالين قبل ذلك بعشر سنين في الحرب البولندية البلشفية، وقام ما يدعى منظمة الجيش البولندي خلال تلك الحرب بعمليات تجسس في أراض كانت موسكو تعدها تابعة لها، ومع حلول الثلاثينيات لم يعد لتلك المنظمة وجود، لكن زعماء الاتحاد السوفييتي بدأوا بوصفها على أنها مركز المؤامرة، وعندما أمر ستالين شرطته السرية بالقضاء على المنظمة، التي ادعى بأنها تسللت إلى مناحي الحياة كلها، أصبح كل شخص بولندي أو له علاقة بالثقافة البولندية من قريب أو بعيد عرضة للمساءلة، واعتقلت حكومة ستالين 143 ألف شخص ما بين عامي 1937 و1938 بتهمة التجسس لصالح بولندا وأعدم معظمهم".
ويفيد الكاتب بأن "تاريخ أمريكا حافل بالتغريب أيضا، ففي بدايات القرن العشرين حذر الناشر المشهور لصحيفة "ساكريمانتو بي"، فالانتاين ستيوارت مكلاتشي، من أنه، بحسب العقيدة العرقية اليابانية، فإن الدم فوق الجغرافيا، ولذلك فإن اليابانيين الأمريكيين لا يمكنهم أن يكونوا مخلصين لأمريكا، وقال إن تلك العقيدة تدرس للأطفال اليابانيين في مدارس اللغة اليابانية في أمريكا، وأضاف أن الأمريكيين اليابانيين (يخططون لخدمة طموحات اليابان في إخضاع العالم كما يدرسون في ديانتهم وفي مدارسهم)، وعندما ضربت اليابان بيرل هاربر خدمت حملة التغريب الطويلة هذه في أن تكون الأساس لمخيمات الاعتقال لليابانيين، وأشار أيضا الى الاتهامات التي وجهت للأقلية الكاثوليكية في نهاية القرن التاسع عشر، بأن ولاءهم للبابا أكبر منه للدستور الأمريكي".
ويذهب بينارت إلى أن "أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لم تكن السبب لتقبل المحافظين نظريات غافني، لكن الحروب الفاشلة التي خاضتها أمريكا بعد ذلك، بالإضافة إلى أن جوزيف مكارثي اكتسب مؤيدين في بدايات الخمسينيات عندما تعب الأمريكيون من الحرب الكورية بالاحتجاج بأنه يمكن هزيمة التهديد الشيوعي الحقيقي، يمكن أن يتم ذلك بفعالية ودون عنف عن طريق إخراجهم من الجحور في أمريكا. وينادي غافني بشيء شبيه للمسلمين فيقول: (نستطيع قتل الكثير من شبه المتعلمين في المناطق النائية من العالم.. لكن ما دمنا نهمل بل وأسوأ من ذلك نمكن ونرضخ لهذه العقيدة السامة التي يشاركونها مع إسلاميين متعلمين ويحسنون الخطاب في هذا البلد فقد حكم علينا بالهزيمة)".
ويشير الكاتب إلى الدور الذي أداه موقع "بريتبارت" بتبني نظريات غافني والترويج لها، فكان بذلك أول مؤسسة تروج لها تبعتها في ذلك مؤسسة "آكت فور أمريكا"، التي تقودها مسيحية مولودة في لبنان اسمها بريجيت غابرايل، التي تشبه أجندتها أجندة غافني، وتستخدم التخويف من شبح الإخوان المسلمين والشريعة.
ويختم بينارت مقاله بالإشارة إلى أن الخشية الحقيقية هي أنه "إن تعرضت أمريكا لهجوم إرهابي فإن قاعدة ترامب سترحب بشن هجوم قانوني على المؤسسات الإسلامية".