كلما تأكدت ضرورة إحداث نقلة نوعية في المنظومة الفقهية الإسلامية، إلا وجدت وقائع تكشف بوضوح وجود مقاومة شرسة لكل محاولة جادة ترمي إلى حماية الموروث من كل مراجعة جدية تهدف إلى إعادة تأسيس طرق الاستنباط والاجتهاد. وفي هذا السياق يختلط الديني بالسياسي، وتتضارب المواقف والمصالح، وتكون النتيجة تعميق شعور المسلمين بالضياع التاريخي وفقدان الرؤية وتفويت فرصة تمتعهم بحقوقهم كاملة.
لفهم خطورة المسألة وتداعياتها، نتوقف عند مسألتين لهما دلالة خاصة، ولا تزالان تثيران الضجيج وتحدثان الصدمة تلو الأخرى في هذه المرحلة القلقة من تاريخ الإنسان المسلم.
تتعلق المسألة الأولى بالطلاق الشفوي الذي لا يزال يمارس على نطاق واسع في دول عربية كثيرة. ونظرا لما تمثله هذه الظاهرة من مخاطر كبرى على استقرار الأسرة المسلمة وعلى حقوق الزوجة، كان ينتظر أن يتصدى لها الفقهاء بكل سرعة وحزم ومسؤولية، لكن الكثير منهم لم يفعلوا ذلك، وأعطوا في
مصر فرصة ذهبية للرئيس السيسي الذي طالب بإنهاء حالة التسيب والفوضى حيث أثبتت الإحصاءات الرسمية أن 40% من المتزوجين يطلقون خلال السنوات الخمس الأولى من الزواج، معتبرا أن هذه "نسبة كبيرة وتكون لها سلبيات على الأسرة والأجيال" المقبلة. وبدل أن يسارع
الأزهر إلى تأييد هذا التوجه، ويتصدر عملية الإصلاح بطريقة مسؤولة مثلما فعل بالنسبة للأزمة الطائفية، إذا به يفعل العكس تماما حيث اعتبرت هيئة العلماء أن "وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، هو ما استقرَّ عليه المسلمون منذ عهد النبي... دون اشتراط إشهاد أو توثيق"، وبذلك يكون الأزهر قد انحاز مرة أخرى للتراث الفقهي القديم دون مراعاة المتغيرات التي حصلت عبر التاريخ، ودون الأخذ بعين الاعتبار حجم المظالم التي ارتكبت في حق ملايين النساء بسبب سوء استعمال الأحكام الفقهية وإخراجها من سياقها الاجتماعي والبيئة التي أفرزتها.
هكذا بدل أن يقف الأزهر إلى جانب القضايا العادلة والحارقة، وفي مقدمتها تأمين الحريات وتوفير العدالة الاجتماعية والوقوف إلى جانب النساء باعتبارهن شقائق الرجال كما وصفهن رسول الإسلام، إذا به يسقط في الدفاع عن قضايا جزئية تجاوزتها فلسفة الحقوق وأصبحت تتعارض بشكل مطلق مع مقاصد الإسلام ومبادئه الكبرى. وبدل أن يخرج شيخ الأزهر منتصرا في هذه المعركة الإصلاحية بعد أن انحاز للانقلاب وأضفى عليه الشرعية، نراه اليوم يتجه نحو أن يخسر على الجبهتين، حيث سينقلب عليه من سبق أن سانده من قبل، ومن جهة أخرى، سيكتب التاريخ أنه أضاع فرصة ثمينة لتصحيح ممارسة خاطئة كلفت النساء ولا تزال ثمنا باهظا.
تتعلق المسألة الثانية بممارسة أخرى مرعبة ولم تعد مقبولة بأي حال. إذ لا يزال فقهاء كثر يتصدون بكل ما أوتوا من قوة ومكانة لكل دعوة تطلق من أجل تحديد سن زواج القاصرات. ويعتبر هؤلاء أن تحديد السن مخالف للشرع، ومشيع للفساد، ومدمر للأسرة!!!
لا يزال هؤلاء الفقهاء يعتبرون أن زواج الذكر بطفلة جائز شرعا حتى لو بلغ سنها عاما واحدا (!؟ (، وإنما شرطهم الوحيد هو ألا يقع الدخول عليها، أي ممارسة الجنس معها بإدخال العضو الذكري، إلا عندما تصبح البنت قادرة على تحمل ذلك بعد سن البلوغ، أي عندما تأتيها الحيضة الأولى. وبذلك تختزل المرأة في عضوها التناسلي، وتسقط بقية الشروط والمؤهلات التي يجب أن تتوفر في الزوجة الصالحة والمسؤولة عن أفعالها وعن جسمها وعن عقلها وعن مشاعرها حتى تكون قادرة على تقاسم شريك حياتها في السعادة والمتعة وتربية الأبناء ومواجهة صعوبات الحياة، وأن يخوضا معا معارك إصلاح المجتمع والنهوض به.
يحدث هذا الجدل وتتجدد هذه المعارك في زمن أنجز فيها الجيل الرابع من
حقوق الإنسان، وتفرعت فيه المفاهيم والتشريعات والعقود والمعاهدات في سبيل حماية الفرد بجنسيه وكذلك الشعوب والحيوان والجماد. بمعنى آخر، يبدو جزء مهم من فقهاء المنطقة يعيشون خارج اللحظة الراهنة، ويتحركون في فضاء زمني وذهني وثقافي مقطوع الصلة أو يكاد بإشكاليات العصر وهموم مواطنيهم. إنهم يخاطبون أنفسهم أكثر مما يخاطبون أبناء جلدتهم ودينهم، وبالتأكيد لا علاقة لهم بما يحصل في العالم، رغم قولهم المتكرر بأن الإسلام رسالة للعالمين، ولن يتحقق ذلك إذا ما استمر هؤلاء في إخضاع الدين لمنهج متناقض مع الحقوق ومع العقل والمنطق.