فتحت تداعيات الأزمة المتفاقمة بين
تركيا من جهة وألمانيا وهولندا من جهة أخرى، باب التحليلات والتكهنات حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تصعيد بعض الدول الأوروبية مواقفها تجاه تركيا.
وتكاثرت التغريدات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تضع الأزمة في سياق معاداة الدول الأوروبية لتركيا باعتبارها تمثل تجربة إسلامية ناجحة كما يراها بعض الناشطين، وتتعدى في عداوتها لتركيا إلى الإسلام في ذاته كنظام حياة شامل بحسب ناشطين آخرين.
فما هي الأسباب الحقيقية وراء تلك الأزمة المتفاقمة بين تركيا وألمانيا وهولندا؟ وهل هي حقا تكشف عن عداء حقيقي تجاه تركية أم إنها أزمة سياسية عابرة يمكن تسويتها بالطرق الدبلوماسية؟ وما مدى دقة الرأي القائل بأن الأزمة كاشفة عن عداوة دفينة تجاه الإسلام بذاته ولا تقف عند تركيا كدولة؟
الأزمة في شقيها: السياسي والعنصري
في تحليله لطبيعة الأزمة القائمة حاليا بين تركيا وأوروبا، لفت الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، المتخصص في الشأن التركي، الدكتور سعيد الحاج إلى ضرورة التفريق بين مستويين من الخصومة بينهما.
أما المستوى الأول فوفقا للحاج فهو سياسي، وتعبر عنه الكثير من الأحزاب الحاكمة والحكومات في الدول الأوروبية، ومرده إلى عدم الرضا عن السياسة الخارجية التركية مؤخرا، والتي خرجت بتركيا عن الإطار المرسوم لها سابقا، والذي لعبته لصالح أوروبا، والمنظومة الغربية على مدى عشرات السنين، لا سيما خلال فترة الحرب الباردة.
وأضاف لـ"
عربي21": "إن جزءا من هذه الخصومة بات متعلقا بشخص الرئيس التركي أردوغان، لأنه عنوان التغيير التركي وقائده، وأيضا بسبب تصريحاته الحادة ذات السقف المرتفع تجاه الغرب.
وتابع الحاج مبينا أن المستوى الثاني يتمظهر بشكل عنصري ضد الأتراك أو المهاجرين أو المسلمين، والذي تقوده بعض الأحزاب اليمينية المتشددة في أوروبا، مثل حزب الحرية في
هولندا مثلا، وأحزاب يمينية في دول أوروبية أخرى.
وذكر الحاج أن ذلك التيار فيما يبدو يتصاعد في عدد من الدول الأوروبية المهمة، خاصة في هذا العام الذي يشهد انتخابات برلمانية هامة في كل من ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها.
وطبقا للحاج فإن "تقييم ظاهرة (الإسلاموفوبيا) أو كراهية المهاجرين من الصعوبة بمكان فصل أسبابها الدينية/ الثقافية عن السياسية، إذ إن ثمة ارتباطا وثيقا بين مشاعر التمييز ضد الأجانب وبين ما تمثله دولهم أو حكوماتهم من اتجاه سياسي غير مرضي عنه".
وتابع: "لذا فلربما تحظى تركيا بالقسط الأوفر من الغضب والعدائية الغربية إضافة للعدد الكبير لجاليتها في الدول الأوروبية تحديدا (يقدر العدد بحوالي 5 ـ 5.5 مليون تركي في أوروبا، ثلاثة ملايين منهم في ألمانيا وحدها).
من جهته أرجع الكاتب والمحلل السياسي التركي، إسماعيل ياشا بعض أسباب الأزمة الحالية إلى القفزة الكبيرة التي حققتها تركيا خلال الـ15 عاما بعد تولي حزب العدالة والتنمية حكم البلاد، وهي تواصل مسيرتها التنموية في الداخل، وتخرج للساحات الأوروبية والإقليمية، وحتى الدولية كمنافس قوي.
وبحسب ياشا فإن ما حققته تركيا "يقلق المنافسين التقليديين في أوروبا"، مشيرا إلى أن "مطار إسطنبول الثالث على سبيل المثال سيكون منافسا كبيرا لمطار فرانكفورت".
وعن الأسباب الأخرى للتصعيد الحالي، قال ياشا لـ"
عربي21": "يمكن إرجاع ذلك إلى الانتشار المتزايد للعنصرية في أوروبا، وصعود اليمين المتطرف، ما يجعل الساسة الأوروبيين يتسابقون إلى كسب الناخبين العنصريين اليمينيين المتطرفين من خلال التصعيد ضد تركيا وأردوغان".
ورداء على سؤال "هل بات النموذج التركي أخطر على الغرب من نموذج الدولة الإسلامية؟"، أجاب الكاتب والمحلل السياسي التركي ياشا "لعل البعض يرى تركيا أخطر لأن شيطنتها وفق "المعايير الأوروبية" ليست سهلة، مبديا أسفه حول ما تقوم به أوروبا حاليا من محاربتها للقيم الديمقراطية التي تشدق بها.
خلفيات الأزمة وتداعياتها
من جانبه رأى الباحث المصري في العلاقات الدولية، المتخصص في الشأن التركي، محمد حامد أن "الأزمة الحالية تأتي على خلفية عدم سرور حكومة ميركل عن التعديلات الدستورية التركية الجديدة، والتي تمنح الرئيس التركي صلاحيات خرافية".
وتابع: "ولكن اتفاق اللاجئين الذي وُقع في مايو الماضي التف حول رقبة ميركل والساسة الألمان مثل ثعبان الكوبرا، ما فرض عليهم صمت مطبق، غضوا معه الطرف من أجل المصلحة".
وبيّن حامد أنه "أمام حركة القمع الواسعة التي طالت الجميع، وجدت ألمانيا ضالتها في إلغاء الفعاليات السياسية والحزبية المروجة للتعديلات الدستورية "الخرافية" وهو أضعف الإيمان"، على حد وصفه.
ولفت إلى أن تركيا تناور بأصوات الألمان من ذوي الأصول التركية في ابتزاز واضح للحزب الديمقراطي المسيحي لإعطائه أصواتهم في الانتخابات القادمة، ما يعني تحكم أردوغان في الانتخابات الألمانية الداخلية، بحسب الباحث المصري.
أما في ما يخص الأزمة بين تركيا وهولندا، فبحسب حامد فإن "العلاقات التركية الهولندية كانت علاقات جيدة ومتينة قبل الأزمة الحالية، ولكن أنقرة لجأت للاشتباك الإقليمي مع جيرانها من دول أوروبا هولندا وألمانيا بهدف شحن الشارع التركي واللعب على الوتر القومي للشعب التركي لأغراض كسب المزيد من الأصوات لصالح استفتاء إبريل القادم"، على حد قوله.
وبرؤية تحليلية ناقدة وصف حامد أردوغان بأنه "بارع في صنع المعارك الدبلوماسية أو المعارك مع طواحين الهواء قبل الانتخابات لكسب مزيد من الأصوات، وحشد الشارع التركي في اتجاه محدد وهو التصويب بنعم والتغطية على سلبية التعديلات الدستورية عبر اللعب على الوتر القومي، وكرامة الدولة التركية".
واستبعد حامد التفسير التآمري للأزمة، مشيرا إلى أن "الغرب لا يحمل الكراهية لتيار الإسلام السياسي، خاصة أنه أغدق على الحكومات التركية المتعاقبة المعونات والاستثمارات الكبيرة منذ تولي الحزب للسلطة عام 2002".
ولفت حامد إلى أنه "لا يوجد بديل لحزب العدالة والتنمية في تركيا، فالمعارضة التركية ضعيفة، وبلا برامج حقيقية، وليس لديها ما تقدمه للداخل أو الخارج، كما أن الغرب ساهم في نجاح تجربة تركيا وحزبها الحاكم، ولن يعمل على إفشالها على الإطلاق".
وحول مستقبل العلاقات التركية الأوروبية، والمسارات المحتملة مستقبلا، أوضح الدكتور سعيد الحاج أنه "لا يمكن استشراف ذلك بالنظر إلى المعادلة الثنائية فقط، بل إن الخلافات الأمريكية الأوروبية في حلف شمال الأطلسي والمشاكل الداخلية التي يعاني منها
الاتحاد الأوروبي تمثل تحديا وجوديا للمشروع برمته".
وأضاف: "فإذا ما أضيف إليه تصاعد اليمين في عدد من الدول الأوروبية، نستطيع القول إن الجانبين التركي والأوروبي باتا على شبه قناعة بأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبية أمر غير مرجح، ودونه صعوبات كثيرة وكبيرة، ثقافية وسياسية واقتصادية، وقد انعكس ذلك على حماسة الأتراك أنفسهم لعضوية الاتحاد الأوروبية، والتي تراجعت وفق استطلاعات الرأي مؤخرا إلى ما دون الـ40 بالمائة".
وتوقع الحاج أن يكون الحل في "شراكة خاصة" بين تركيا والاتحاد، خاصة على الصعيد الاقتصادي، إذ إن ما يميز العلاقات التركية الأوروبية حتى الآن تلك المفارقة الواضحة بين تدهور العلاقات السياسية والدبلوماسية، ونمو العلاقات الاقتصادية إذ إن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شركاء أنقرة التجاريين بحجم تبادل تجاري قدر عام 2016 بـ142 مليار دولار، حصة ألمانيا وحدها من ذلك 35 مليار دولار.
وخلص الحاج إلى القول إنه "يجب انتظار الانتخابات البرلمانية في الدول الأوروبية المختلفة هذه السنة، خاصة ألمانيا وفرنسا ومدى تقدم اليمين المتشدد فيها، إضافة إلى الاستفتاء التركي على التعديلات الدستورية، والذي سيكون له أثر مباشر على السياسة التركية في الداخل والخارج، للخروج برؤية واضحة حول مستقبل العلاقات التركية الأوروبية".