حين كتابة هذه السطور يفترض أن يكون العاهل الأردني عبد الله الثاني قد وصل الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ محادثاته مع المسؤولين هناك، وقبل ذلك كان
ترامب قد أجرى اتصاله الثاني في المنطقة مع عبد الفتاح السيسي، من بعد اتصاله مع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، ثم أجرى اتصالاته مع ولي عهد إمارة أبو ظبي محمد بن زايد، والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز.
صحح أن ترامب في خطاب تنصيبه، وفي عدد من القرارات التي وقعها من بعد دخوله البيت الأبيض؛ ظهر وفيّا لشعاراته الانتخابية، وظل يثير الانقسام داخل المجتمع الأمريكي، والمخاوف لدى حلفاء أمريكا الأوروبيين، إلا أن هذا لا يكفي لتوقع سياسات إدارته خلال ولايته الجارية.
بكلمة أخرى؛ شعارات ترامب الانتخابية، ورغم بدايته الجادة والوفية لشعبويته التي أوصلته البيت الأبيض، ما تزال غير كافية للاعتقاد بأن سياساته لن تكون سوى ترجمة عملية لها، ولذلك فإن القدرة على توقع السياسات ستعاني في المرحلة الأولى من ولايته.
لا يتعلق الأمر فقط بالمنظومة الأمريكية بأبعادها المتنوعة، السياسية والقانونية والمدنية، والتي كان من تجلياتها القرار القضائي الفيدرالي الذي حدّ جزئيّا من مفاعيل قرار ترامب بحظر دخول مواطني سبع دول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن الرجل نفسه أيضا، وبعدما صار في البيت الأبيض، لا يبدو واثقا مما يريد بالضبط، فالانطباعية والمواقف المرتجلة لا يمكنها أن تقود بلدا كالولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الأقل، وحتى لو كانت سياسات ترامب سوف تستند إلى تصورت ناجزة يمثلها ستيف بانون كبير مستشاري الرئيس الجديد، فإنها ومهما كانت متمردة، لن تكون الوحيدة في سلسلة تقاليد سياسية طورها هذا البلد الضخم، وفي بنية مؤسسية بالغة التعقيد؛ تجعل من اختلاف ترامب وسياقات وصوله إلى البيت الأبيض جزءا من اللعبة، لا اللعبة كلها.
مثلا، بالرغم من حديث ترامب عن إقامة مناطق آمنة في سوريا، وهو الأمر الذي كان مفاجئا بقدر ما ظل غامضا؛ وبالرغم من أن ترامب أعاد طرح هذه الفكرة على العاهل السعودي في اتصالهما الهاتفي، بحسب بيان البيت الأبيض، إلا أن
البنتاغون نفى أن يكون قد وصلته أي خطة بهذا الخصوص من ترامب أو من وزير الدفاع.
بصرف النظر عن حقيقة هذا الموضوع تحديدا، فإن التباين بين ترامب وفريقه، حاضر بالفعل، فمنذ البداية تحدث مرشحا ترامب لوزارتي الدفاع والخارجية أثناء جلسة استماع الكونغرس التمهيدية لاعتمادهما؛ على نحو مخاتل بخصوص نقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى
القدس.
ولم يُظهر وزير الدفاع الجديد جيمس ماتيس موافقة لرئيسه بخصوص وسائل التعذيب التي يشجعها الأخير، كما أكد ماتيس على أهمية حلف "الناتو" بالنسبة لواشنطن، على خلاف ما يعلنه رئيسه.
فضلا عن مسألة نقل السفارة والتي لم يحصل بشأنها أي تطور بعد، فإن ترامب وفي اتصاله مع العاهل السعودي، تحدث عن "التطبيق الصارم" للاتفاق النووي الإيراني، في تراجع واضح عن موقفه الذي كان يدعو فيه إلى إلغاء الاتفاق النووي مع إيران.
التأني، أو التراجع، في بعض مواقف ترامب، والتباين الحاصل بينه وبين بعض كبار فريقه، والانقسام الموجود أساسا حوله داخل المؤسسة، وبقدر ما يجعل القدرة على التكهن حول سياساته القادمة صعبا، على الأقل في الشهور الأولى، إلا أنه قد يعطي مؤشرا على قدرة المؤسسة والتقاليد على إعادة ضبط الاتجاه السياسي الأمريكي، أو قدرة بعض أجنحة المؤسسة على استغلال ما تتيحه لحظة ترامب لإعادة صياغة سياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، بما في ذلك تجاه منطقة الشرق الأوسط.
هذا الاحتمال يبدو وجيها حين النظر إلى اتصالات الإدارة الجديدة بدول المنطقة، فالدول العربية الأربع التي أجرت معها إدارة ترامب اتصالاتها، هي الدول نفسها التي شكلت محورا منسجما لفترة طويلة، وأدارت سياساتها على الهجوم الكاسح على الحركة الإسلامية، وإفشال الثورات العربية، وتقديم مقاربات سياسية بخصوص القضية الفلسطينية من خلال ما عرف بالرباعية العربية، وقد ظل هذا المحور قائما حتى مجيء الملك سلمان، ثم توتر العلاقات المصرية السعودية، ومن الملفت جدّا أن تأتي هذه الاتصالات بعد اتصال ترامب بنتنياهو.
وإذا كانت مقاربة الإدارة الجديدة للمنطقة ترتكز إلى الحرب على "الإرهاب الإسلامي"، فإن ضلعين أساسيين في هذا المحور، أي مصر والإمارات، يرتكزان في أكثر سياساتهما الإقليمية إلى الركيزة نفسها، كما أن مسألة "داعش" صارت واحدة من أكثر أولويات الأردن إلحاحا في الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى حاجته لتبديد الغموض حول دوره وعافيته في السياسات الإقليمية والدولية، لاسيما مع هشاشة التحالفات الإقليمية، واستحكام الغموض العالمي والإقليمي، واستفحال أزمته المالية.
بالنسبة للسعودية، فقد اضطرت للانغماس في اليمن دفاعا عن عمقها الإستراتيجي، بعدما تمكنت إيران من التمدد إستراتيجيّا في محيطها، مستفيدة، بتدبيرها ومثابرتها، من البيئة الرخوة التي أفضت إليها تطورات المنطقة في السنوات الأخيرة.
وجدت السعودية نفسها في حرب باردة مع إيران، كما وجدت نفسها في هذه الحرب، مكشوفة الظهر، وهي تشعر بالخيبة من سياسات أوباما في منطقة الشرق الأوسط، والآن قد تجد نافذة جديدة يفتحها ترامب لإعادة صياغة العلاقات على نحو يوفر قدرا من الاتفاق بخصوص إيران.
سيناريو كهذا لا يمكن أن يكون وليد ذهنية ترامب الانطباعية، بل هو أقرب ما يكون إلى نمط تقليدي في السياسات الأمريكية، لاسيما في الموقف من إيران، وفي دعم "إسرائيل"، ما يرجح أن تكون أوساط في المؤسسة تدفع للاستفادة من الممكنات التي تتيحها الطبيعة الشعبوية للرئيس الجديد، والأفكار اليمينية لبعض أركان فريقه؛ لإعادة رسم السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
افتتاح اتصالات الإدارة الأمريكية الجديدة بالمنطقة بنتنياهو ثم بالسيسي، أكثر من رمزي، وهو على الأرجح مفتاح فعلي للسيناريو المقترح أعلاه، وفي حال كهذه تظل فلسطين، كما هي العادة، الثمن المطلوب من العرب.
لكن ولأن أمريكا ليست في أحسن حالاتها، ولأن الإستراتيجية الأمريكية العالمية مرتبكة ومنقسمة منذ عهد أوباما، ولأن الغموض الإستراتيجي لم يزل يلف العالم ويطوي على احتمالات شتّى، فإن هذا السيناريو يظل واحدا من تلك الاحتمالات.