دعس الفلسطيني فادي القنبر الأحد الماضي عددا من الجنود الإسرائيليين في شرقي
القدس بسلاحهم وزيهم العسكري الكامل، في عملية تنسجم تماما مع المعايير العالمية التي وضعتها القوى الغالبة، على ما في تلك المعايير من اختلال فاضح، إذ هي معايير قبلية فوقية، يراد تنزيلها كما هي على أي صراع مهما كانت تعقيداته وحيثياته الخاصة، وكأنها معايير فوق تاريخية، وعابرة للزمان والمكان، وهي إلى ذلك، تخضع لسدانة قوى منحازة ضد حقوق الشعب الفلسطيني الأصيلة.
بالرغم من ذلك جاءت تصريحات نائب رئيس الوزراء التركي محمد شمشك في إدانة العملية التي وصفها بالإرهابية والحقيرة، منفلتة وحادّة وعدوانية وتخلو من الحصافة، ومن أي قدر من فهم السياق الفلسطيني الخاص، متضمنة تسليما بالرواية الإسرائيلية عن انتماءات الشهيد منفذ العملية لتنظيم "داعش"، وذلك بالإضافة إلى إدانة أخرى من رئاسة الوزراء، قبل أن يتراجع المسؤولان التركيان عن موقفهما ويحذفا تغريدات الإدانة.
من الجهة التركية تكشف هذه الإدانة بلغتها الحادّة والمسيئة لنضال الشعب الفلسطيني، عن طبيعة الحزب التركي الحاكم، الذي يسعى في تركيبته الحكومية إلى التوازن بين عناصره المنحدرين من اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، ويكشف بالقدر نفسه عن افتقار الحكم في تركيا إلى الاتزان الداخلي، وإلى الاتزان في مقاربته للأحداث الإقليمية، وعن شعوره العميق بالأخطار المحيطة به بالرغم من اجتيازه لمحنة الانقلاب الفاشل، والذي لا يبدو أنه قد زاده قوة كما كان مأمولا.
الإحساس بالخطر المحيط، وهشاشة استقرار الحكم في تركيا، وعدم قدرة العدالة والتنمية بعد هذه السنوات الطويلة في إنجاز التحولات اللازمة في بنية الدولة التركية التي اخترقتها الأيادي الغربية طوال العقود التي مضت من عمر الدولة التركية الحديثة، وما يترتب على ذلك من انقسام مؤسسات الحكم تجاه السياسات الخارجية؛ عامل كبير في توجيه السياسات التركية الراهنة، بعدما انكشف ظهر الحزب الحاكم بقيادة أردوغان، وتبين أنه يتحرك في بيئة شديدة الخطورة بلا تحالفات إقليمية أو دولية من شأنها أن تعزز استقراره الداخلي وثقته بنفسه وتدعم سياساته الخارجية.
إزاء ذلك يمكن لأصدقاء الحزب التركي الحاكم من الفلسطينيين والعرب والإسلاميين، أن يحددوا مستويات التعامل مع الحالة التركية، بالفصل بين الدولة، والحزب الحاكم، وبين تيارات وقيادات الحزب الحاكم نفسه، وبناء على هذا الفصل يتقرر أن الدولة التركية لا تشكل دولة قاعدة للإسلاميين العرب، بخلاف إيران التي يمكن القول إنها تشكل دولة قاعدة للتيارات الشيعية عموما.
صحيح أن النظام الحاكم في إيران ليس كتلة مصمتة، وتتنازعه تيارات كلها منحدرة من "الثورة الإسلامية"، ولكنه وطوال أربعين عاما مضت تقريبا، أعاد صياغة الدولة الإيرانية، وتمكن من ترسيخ هويتها ورؤيتها لنفسها وللعالم على أساس من أيديولوجيته وتطلعاته، وهو الأمر الذي لم يتحقق في الدولة التركية، التي لا يحكمها العدالة والتنمية بفعل عملية ثورية عميقة، والذي يسعى بعملية بطيئة وشديدة الحذر وبالغة الخطورة إلى التعديل على هوية الدولة وبنيتها ووظيفتها، وفي هذا السياق تأتي جهوده لتعديل الدستور وتحويل نظام الحكم فيها من برلماني إلى رئاسي.
بهذه الرؤية يكون العدالة والتنمية بزعامة أردوغان تحديدا، أفضل الموجود في تركيا بالنسبة للإسلاميين، ولقضايا العرب والمسلمين، دون أن يقتضي هذا وهما من قبيل أن تركيا صارت "دولة قاعدة لهم"، وإذا كانت المصالح متشابكة إلى درجة لا يمكن فيها الفصل التام بين مصلحتنا في نظام الحكم في تركيا، ومصالحنا المباشرة، فإن هذا لا يقتضي بدوره أن نتخلى عن مصالحنا المباشرة التي هي مسؤولياتنا وثغورنا وأماناتنا، فهذا في الحقيقة ضرب من الخيانة والغباء في الوقت نفسه.
المشكلة هنا، أن كثيرا من الإسلاميين العرب من التيارات الصديقة للعدالة والتنمية التركي، مثقفين وعلماء ومؤسسات، يأخذون موقع السياسي في التعاطي مع المقاربات التركية الخارجية، سواء تعلقت بالقضية الفلسطينية أو غيرها من قضايا العرب والمسلمين.
فإذا كانت حسابات السياسي دقيقة وحرجة، كأن تكون حسابات حركة حماس مثلاً، فإنّ هذا ينبغي ألا ينسحب على بقية أصحاب المواقع والأدوار الأخرى، وإلا لتورطنا في حالة مفتوحة من تزييف الوعي وخيانة الأمانات وإخلاء الثغور التي نقف عليها لصالح ثغور أخرى لها أصحابها.
دون أن يعني هذا صحة ما يذهب إليه بعض السياسيين من مبالغة فجة في الثناء على الأصدقاء أو الحلفاء، ومن باب أولى فإن هذه المبالغة سلوك معيب إن خرجت من عالم أو مثقف، وكم من واحد من أمثال هؤلاء انقلب على خطابه من بعد الثورات العربية تجاه ساسة ودول وأحزاب وطوائف، وقد كان يسعه أن يكون "وسطيا" كما يدعو، وأكثر تحوطا وأقل خفة واندفاعا، وأن يحبّ حبيبه هونا ما!
حينما تقدّم السياسة التركية خطابا خاطئا، بل وآثما، تجاه القضية الفلسطينية، مهما كانت دوافعه وسياقاته، سواء انطلق من قناعات تأسيسية أم بحكم الضرورة والمتغيرات السياسية أم نتيجة لجهل أو سوء فهم أو محض خطأ غير مقصود، فإن واجبنا فلسطينيين وعربا، أن ندافع عن خطابنا نحن، وروايتنا نحن، وأن نحاول قدر الإمكان التأثير على الخطاب التركي، وأي خطاب آخر في هذا العالم، لا أن ندافع عنه، أو نبرر له، أو ندعو لتفهمه بحجة ثقتنا في نوايا أردوغان، أو إدراكنا لتعقيد البيئة التي يتحرك فيها!
لا تقتصر خطورة التبرير على تضليل الوعي العام وعلى إخلاء المواقع الواجبة لصالح الدفاع عن مواقع أخرى هي من مسؤولية آخرين ويلتزم فيها أصحابها بسياقاتهم، ولكنها أيضا تصادر منا حجتنا الأخلاقية ومصداقيتنا في نقد أي خطاب أو سلوك مشابه يصدر عن جهات غير صديقة لنا، فاعتبارات الثقة وإحسان الظن هي اعتبارات خاصة ونسبية، ولا يمكن استخدامها في الحجاج الخارجي، أو في تدعيم موقفنا المبدئي من قضايانا وثوابتنا.
أردوغان ليس خليفة المسلمين، ودولته ليست قاعدة للإسلاميين، هذا صحيح وهو ما نقوله في هذه المقالة، ولكنه أيضا ليس مجردا من الدوافع الأخلاقية وحتى الإيديولوجية في سياساته الداخلية والخارجية، غير أنه في النهاية محكوم بسياقات خاصة، معرفتها من طرفنا ضرورية للفهم ولإدارة سياسة سليمة معه أو لبث الوعي العام، لا للتماهي معه وتبني خطابه والترويج له والتحول إلى أداة دعائية لصالحه، وهذا بالضرورة يتطلب نقدا لأخطائه التي تمس مصالحنا أو روايتنا أو خطابنا، فإذا كان مفهوما لنا بداهة انطلاق الرجل من سياقه الخاص، فالأصل أن ننطلق بدورنا من سياقنا نحن لا من سياقه هو!
المشكلة هنا لها اتجاهان، فيمن يعتبر أن النقد لا بد من الذهاب به بعيدا لإسقاط الرجل جملة واحدة واتخاذه هدفا دائما لتصيد أخطائه وسقطاته، وفيمن يرى في المقابل أن أي نقد للرجل هو مساهمة في إسقاطه وإفشاله.
وفي هذا العالم المفتوح، الذي تنفجر فيه المعارف، وما عاد ممكنا فيه الحجر على الخلق، ثمة من يعتقد أن أي نقد داخلي أو لرموزنا وأصدقائنا هو محض تصنع للموضوعية، أي أن النقد بحسب هذا الفهم صار نفاقا، لأنه متكلف وغير صادق، مع أنه لا سبيل لصدق المثقف أو العالم مع نفسه وخروجه من النفاق، إلا بالنقد الذي يُعبّر فيه عن قناعاته الصادقة ويساهم به في تصحيح الأخطاء ومنع انجراف الوعي والسياسات نحو مزيد من الخطأ.
* كتب هذا المقال وأرسل قبل أن يسحب رئيس الوزراء التركي ونائبه تغريديتهما اللتين أدانا فيهما. العملية.