كان يمكن غير ما كان ولكن بقوم غير القوم فهل نهدم المعبد على من فيه ليكون ما نريد بمن نريد.
يوجد خطأ فظيع في القصيدة
التونسية يجعلنا ندور حول أنفسنا ولا نتقدم. غير أننا ننتج في أثناء ذلك كمية من الخطاب المتناقض مع الوضع الذي نعيش. التونسيون ينافقون أنفسهم. لا أحد فيهم راض عما يجري حتى اللصوص يريدون أن يوسعوا سرقاتهم إلى مجالات جديدة. لكن الجميع في الحديث العلني يكبرون توافقاتهم السياسية والاجتماعية كما لو أنهم إخوة رضعوا حليب أم واحدة.
تحت الطاولة أرى سكاكين كثيرة والموت راصد. الواقعية التونسية ليست واقعية، إنها تأجيل معارك لا بناء سلام. لذلك تزدهر المحبة في الخطاب وتشتغل المكائد في الكواليس بما يجعل الديمقراطية المدعاة في تونس قصعاجيات إعلامية. والقصعاجيات ألعاب سحرية بسيطة كان يقدمها ساحر تونسي اسمه القصعاجي. وقد ذهب بين الناس أن كل عمل كاذب أو مموه يسمى قصعاجيات. النهاية دفع الناس إلى زاوية ضيقة فإما الاستسلام الحزين كما في عهد الدكتاتورية وهو الأقرب أو
الثورة الحاسمة وهي أمنية تغوص في وحل القصعاجيات.
إذا أنت صديق بوتفليقة أنا صديق السيسي
المشهد يحكمه كيد ضرائر. النداء ويساره الوظيفي ضد النهضة (أو الباجي بعصاه اليسارية ضد الغنوشي). على خلفية مقاومة الإرهاب فقدت الجزائر ثقتها في الباجي وحزبه ويبدو أن ما لديها من العلم بما جرى في تونس من عمليات ارهابية (زمن حكم الترويكا) قد جعلها تميل إلى الغنوشي لحمل رسائلها إلى الدولة التونسية. ويبدو أن الغنوشي ليس بوسطجيا بل صاحب خطة وله أهداف ربما يكون بعضها وطني لكن الأكيد أن غالبها حزبي. والسائد في تونس من زمن بورقيبة أنه إذا كنت في حالة سلام مع الجزائر فإنه يمكنك أن تحكم تونس مطمئنا.
هذه الورقة الجزائرية الودية (منح بوتفليقة طائرته الخاصة لتنقل الغنوشي بين البلدين) تقرب الغنوشي إلى الحكم، خاصة أنه يملك علاقات طيبة مع ثورة 17 فبراير بليبيا ووسعها إلى فصائل أخرى (قذافية)، ويعمل على ضم فرقاء النزاع الليبي، لإقناعهم بالتوافقات السياسية على الطريقة التونسية بما يمكنه من ورقات قوية تجعله رجل السياسة والديبلوماسية في المنطقة (مقابل صورة الباجي الجالس يتابع كرة القدم).
وجب الرد إذن بدعوة السيسي إلى تونس بحجة البحث عن حل في ليبيا. وقع الغنوشي في ورطة. الاجتماع بالسيسي قاتل الإخوان معناه قطيعة كاملة بين النهضة وتيار الإخوان (الإسلام السياسي عامة). الخسارة الأخلاقية والمالية للغنوشي ستكون كبيرة وغير قابلة للتعويض. هامش المناورة ضيق إذا حضر خسر سمعته وحزبه وإذا غاب خسر تموقعه في حل معضلة الإرهاب التي يريدها مطية حكم.
مع الباجي لا تفرح بأي انتصار إنه مناور ذكي.
لكن ما فائدة تونس من عراك الضرائر؟ الباجي والغنوشي لا يطرحان هذه الأسئلة. الرئيس معني بتمكين عائلته من وسائل بقاء قوية بعده والغنوشي معني بحماية حزبه وربما تمكينه من الحكم. وكلاهما يبرر أن لمساعيه فائدة لتونس. وعامة الناس لا تثق ولكنها تراقب محبطة. وتدخل في زاوية ضيقة.
إذا أنت تريد الانتخابات أنا أفرض تصويت حملة السلاح
بعد انتخابات 2014 ظل الجمهور ينتظر الانتخابات البلدية والمحلية تفعيلا للباب السابع من الدستور. وكان حزب النداء يتهرب محاولا تعديل الدستور لإلغاء هذا الباب حتى وصل نهاية الطريق (فشل الرئيس في انشاء حزب آخر بديلا لحزب النداء)، والنهضة تدفعه من الخلف للبلديات لأنها واثقة من الفوز بها أو بأغلبها بحكم استعداداها وتنظيمها. وصل القانون إلى جدول النقاش البرلماني فإذا فخ ينصب. تشريك القوى الحاملة للسلاح في الانتخابات بدعوى المساواة بين المواطنين.
الرفض معناه استعداء الاسلاك وخاصة منها الأمنية ونقاباتها فمن يقف ضدها تصنفه عدوا. وقد سبق لها اقتحام القصر الرئاسي على الرئيس واقتحام قصر الحكومة على رئيسها من أجل الزيادة في الأجور والرتب. فكيف بمن قد يمنعها من التأثير على التصويت.. وفي الوقت الذي تصدر عن المؤسسة العسكرية أصوات رافضة بدأت تسمع من النقابات الأمنية تهديدات مباشرة لمن قد يحرمها من التصويت؟
المعركة تحولت بسرعة من حل مشكل البلديات والحكم المحلي إلى من يسترضي النقابات الأمنية ويدللها بمنحها المزيد من السلطة والنفوذ عبر التأثير المباشر على التصويت. نكتشف نفس المعركة من نفس الأطراف.
القبول يعني إنهاء العملية الديمقراطية في تونس وإلى الأبد لأن فكر وتقاليد الأمن الجمهوري لا تزال بعيدة وربما مستحيلة على هذا الجيل من الأمنيين الذين رباهم بن علي على أنهم سادة البلد ولهم سلطات مطلقة. والرفض يعني زرع عداوة بين هذه الأجهزة وبين الأحزاب وطبعا الحزب الأقدر على الرفض هو النهضة.
السؤال الذي لم يطرح: ما فائدة التونسيين من مشاركة الأمنيين في الانتخابات؟ إن عددهم لا يؤثر على الصندوق ولو صوتوا جميعهم لجهة واحدة. ولكن الجمهور المعرض عن الصندوق يستنكف أن يشاركه فيه رجل الأمن حامل السلاح. النتيجة تبدو ظاهرة منذ الأن الدعوات إلى المقاطعة النهائية لأي عملية انتخابية بدأت تتعالى. من يستعدي الأجهزة على الأحزاب إنه الخاسر في الانتخابات قبل وقوعها لأنه لم يستعد لها ولم يضمنها. ولكن الخاسر الأكبر هو الشعب التونسي الذي يعجز دون هذه المناورات الخسيسة والكيد الحريمي.
لا قدرة للجمهور العريض على مواجهة الأجهزة المسلحة وقد منح للأحزاب ثقة لحمايته فإذا الأحزاب تناور ضده لترضية الأجهزة الفاسدة وتوظيفها سياسيا، وهذا يدفعه إلى الزاوية الضيقة ونفض يديه من الصندوق وما قد يحمله من بشائر تغيير.
عندما يصير كسر العزائم منتجا
قد يبدو هذا غريبا لكنه هدف مركزي عند المنظومة القديمة ويسارها الوظيفي. كلما اتسعت المشاركة الشعبية خسرت المنظومة. فالديمقراطية التي يشارك فيها أكبر عدد من الناس تخلق زخما تغييرا مهما ولو بعد حين لكن الإعراض والمقاطعة يضيق المشاركة إلى المنخرطين المتحزبين وحدهم ويقطع أمل البقية فينزوون وهنا تربح منظومة الفساد والإفساد. ويبدو أنها تدفع الناس بكل هذه المعارك الخسيسة إلى الإحباط واليأس ليظل معها أنصارها المتمتعون بعوائد الحكم (كشفت عملية تغيير المعتمدين المحليين الأخيرة المعارك المنحطة حول التعيينات فهي صفقات تعقد ومناصب تباع).
من أجل عدم اقتسام السلطة ومنافعها مع منافس حقيقي تضع المنظومة كل ثقلها ضد مسار التقدم الديمقراطي. ولا يهم ما إذا كان هذا المنافس حريصا على الديمقراطية فالثابت أنه سيقتسم معها المنافع أو يستولي عليها كلها. وقد كان هذا همها الدائم من السلطة والدولة. والناس في أثناء ذلك؟
آخر هموم المنظومة دوما هو الناس وحاجتهم من دولتهم ومن ثورتهم المزعجة. يجب كسر آمالهم في التغيير وإحباط عزائمهم وحشرهم في زاوية السوائم المشغولة بقوتها اليومي فقط. لذلك تطلق أعِنّة الأسعار وترتفع أثمان المواد المعيشية الأساسية لينشغل الناس بها عن مكائد السلطة. هكذا اشتغل بورقيبة وبعده بن علي وكل حكام العالم الثالث الرازح تحت الدكتاتوريات الغبية.
لقد أخرجت الثورة الإنسان التونسي من السلبية، لكن جهد المنظومة كله منصب الآن على إعادته إلى "حظيرته" لينشغل ببطنه. وليست هذه المعارك المزيفة إلا من بعض حيلها.
لكن العبء لا يقع فقط على المنظومة فهذه مصالحها ووسائلها لكن الصف الديمقراطي المنتمي للثورة يتابع المعركة كأنها تقع على أرض أخرى وكأنه ليس معنيا بما يرى من تقهقر لمطالب الثورة. إننا نرى الصف الثوري في موقف أشد بؤسا من المنظومة لأنها ينتظر مثل عقاب الجيف نتيجة المعركة (بين النداء والنهضة طبعا) ليجمع فيأها دون وعي أن هذه المعركة تقع على جثة الثورة المدماة.
ونعتقد أن هذا من إحباط ذوي القربى من الثورة للثورة نفسها، وهو الأشد على نفس الثورة من خيانات المنظومة التي لا يمكنها أن تكون إلا منظومة خيانة.