تراجع كبير في معدّل النمو، يرافقه ضرورة تراجع لسعر صرف الدينار بفعل تراجع حجم
الاستثمارات، وتعطّل بعضها، ناهيك عن تعطّل الإنتاج وأزمة عدد من القطاعات الخدماتيّة، على غرار السياحة، بفعل الهجمات الإرهابية الغادرة.. كانت هذه جزءا من ضريبة دفعها التونسيّون، إلى جانب عدد من الشهداء، في سبيل الانتقال من وضع استبدادي قائم على القمع والترويع والتجويع؛ إلى وضع ديمقراطي تحقّق جزء من مكاسبه السياسيّة، على غرار الدستور الجديد والانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، ناهيك عن حرية التعبير والإعلام وحقوق الإنسان الكونيّة.
صراع "مشاريع السلطة" في السنوات الست الماضية غيّب، أو أنه أجّل بشكل واضح، البرامج الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإصلاحات الكبيرة التي تنتظر النخب السياسية والفاعلين الاقتصاديين والمدنيين والاجتماعيين بعد الثورة، ما جعل البلاد تقطع خطوات في انتقالها السياسي في انتظار انتقال اقتصادي لا غنى عنه؛ لتكريس قواعد
الديمقراطية الناشئة، ولمزيد من تثبيت تجربة تبدو بكل المقاييس مختلفة عن باقي تجارب الثورات التي شهدتها المنطقة العربيّة. وفي هذا يعود الفضل إلى مسؤوليّة النخب وطبيعة الشعب
التونسي الذي لم ينخرط في موجات العنف، رغم المساعي الكبيرة لإلهاب فتيلة بغايات وخلفيات متعدّدة وتحت عناوين وشعارات كثيرة.
صحيح أن فترة 6 سنوات في عمر الثورات وفي عمر الشعوب وفي مراحل الإنتقال الديمقراطي؛ تعتبر فترة قصيرة جدّا، ولكنّ مخلفات سنوات من التهميش والحيف الاجتماعي، ناهيك عما خلّفته الأجواء الإقليميّة المتحرّكة والضربات الإرهابيّة الغادرة؛ جعلت من الملف الاقتصادي والاجتماعي ملفّا حارقا في تونس. فالاحتجاجات المطالبة بالتنمية والتشغيل لم تتوقّف، بل لعلّها شهدت زخما أكبر مع تقدّم الوقت. والإصلاحات بدورها تأخّرت نتيجة كثرة القضايا المطروحة على السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة ونتيجة لإشكاليات أخرى.
كحلّ لتجاوز الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمرّ بها تونس، اقترح البعض "مخطّط مارشال" من أجل ضخّ بعض الأكسجين في شرايين الاقتصاد الوطني، وهو موضوع أثار جدلا واسعا من أكثر من زاوية، وتلا ذلك تنظيم تونس لمؤتمر دولي للاستثمار "تونس 2020"، نجحت تونس من خلاله في إبرام عقود مهمّة سيكون لها دور في دفع عجلة الاستثمار والتنمية، وأصدرت الحكومة قانونا جديدا للاستثمار يقدّم تسهيلات كثيرة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.
بين هذا وذاك، وفي خضم ترقب الانطلاق الفعلي في الانتقال الاقتصادي، بات لدى تونس اليوم "نموذج" يستوجب الترويج باعتباره جاذبا للاستثمار والتعاون الدولي، ومحط أنظار لأغلب الفاعلين في العالم، وهو دور موكول على عاتق الديبلوماسيّة الرسميّة التي يبدو الجانب الاقتصادي في نشاطاتها ثقيل الحركة أو مغيّبا، وعلى عاتق الديبلوماسيّة الشعبيّة التي يقودها باقتدار كبير زعيم حركة
النهضة، راشد الغنّوشي، الذي كان له دور فاعل في التعريف بالنموذج التونسي أولا، وفي تعبئة الدعم الدولي له.
قد تبدو مهمّة التعبئة الدوليّة وجلب الاستثمارات عند البعض اقتصاديّة فحسب، من خلال تقديم تسهيلات وضمانات وتوفير مناخات ملائمة لذلك، غير أنّها في الواقع أبعد بكثير من ذلك في الحالة التونسيّة التي لم يكفها أنّها التجربة الوحيدة التي قطعت أشواطا نحو تكريس الديمقراطية من تجارب الثورات العربيّة، بل حصلت على جائزة نوبل للسلام في سنة 2015 لحسن إدارة الاختلاف بين الفرقاء فيها، عبر الحوار الوطني، باعتباره الوسيلة الأكثر تحضرا، كما التجربة الأبرز لتفاعل الإسلاميين مع الواقع والسياسة والأجواء الإقليميّة والدوليّة، وحتى الداخليّة المشحونة، في تجربة مثّلت استثناء نوّهت به برلمانات غربيّة ومؤسسات بحثية ومراكز دراسات كبرى في العالم.
من هذا المنطلق، فإنّ الاستثمار في الديمقراطيّة يبدو عنصرا قويّا لحشد الدعم والتعبئة لانتقال اقتصادي واعد في تونس، وليست أيّ ديمقراطيّة، فهي الديمقراطيّة التونسيّة المختلفة عن باقي الديمقراطيّات، وهذا ما يقوده راشد الغنّوشي في أكثر من عاصمة، ومن على أكثر من منبر إقليميّ ودوليّ، عبر ديبلوماسيّة شعبيّة ليست اقتصاديّة، فحسب بل لها أبعاد أخرى، خاصّة أنّه بات من أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة، وهو أحد أعمدة التوافق الذي تسير ضمن خطه التجربة التونسيّة.
من منبر المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس هذه المرّة، تحدّث
الغنوشي عن الاستثمار في الديمقراطيّة التونسيّة، مركّزا على قيمة ما تحقّق في تونس، لا فقط لشعبها، بل لكل الشركاء الإقليميين والدوليين، ليُسقط بحنكة كبيرة تلك التهمة التي يحاول البعض ترويجها عن أن تونس "بلد مصدّر للإرهاب" في الفترة الأخيرة، في مقاربة أشاد بها جان ماري جيهينو، المدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدوليّة، الذي أدار الجلسة الحواريّة التي أكّد فيها الغنوشي أن تونس واثقة من مواصلة تحقيق أهداف ثورتها في العدالة والكرامة والحريّة، رغم الصعوبات والتحدّيات التي تعترضها.