"تعطّل حركة المرور بمدينة صفاقس بسبب مقتل ميكانيكي"، هكذا بدا الخبر في البداية قبل أن تلتهب شبكات التواصل الاجتماعي و تتسارع وتيرة الأحداث و التسريبات و المواقف بشكل جنوني والعنوان الأبرز فيها كلّها "من هو المهندس محمد الزواري الضحيّة؟ و ما علاقة الموساد باغتياله؟"، من هنا بدأ في تونس جدل متصاعد عن عمليّة هي الأبرز التي تعرفها البلاد منذ القصف الصهيوني لحمام الشط و استهداف قيادات حركة التحرير الفلسطيني و عمليّة اغتيال أبو جهاد.
جدل و غضب و تبادل إتهامات و ترقّب لم يدم طويلا حتى أصدرت كتائب الشهيد عز الدين القسّام بيانا أوردت فيه معطيات كان مجهولة كليا حتى من طرف عائلة المهندس محمد الزواري نفسها معلنة عن إنتماء الشهيد لصفوفها منذ 10 سنوات و عن دخوله إلى قطاع غزة المحاصر عبر الأنفاق ثلاث مرّات وأيضا عن مشاركته الفاعلة في تطوير طائرات أبابيل القسّاميّة التي إستعملتها الكتائب في عمليّة "العصف المأكول" سنة 2014، بيان قسّامي واضح لم يكن ينقصه سوى خروج "الملثّم" أبي عبيدة نفسه لإلقائه والتهب الجدل بناء عليه ليتجاوز حدود تونس إلى المنطقة العربية و الإسلامية برمّتها حيثما ثمّة نفس يساند أو يدعم القضيّة الفلسطينيّة.
في تونس، تهاطلت البيانات المطالبة بتجريم التطبيع مع الكيان الغاصب و المنددة بإستباحة التراب التونسي خاصّة بعد تنكّر صحفي القناة العبرية العاشرة في هويّة كاتب ألماني و تمكّنه من تصوير تقرير للقناة المذكور من أمام منزل الشهيد و من أمام وزارة الداخلية التونسيّة و لم تكن البيانات وحدها مجرّد موقف فقد طغى الجدل حول القضية على أغلب التفاعلات على شبكات التواصل الإجتماعي و شهدت عدّة ولايات من البلاد وقفات تظاهر فيها تونسيون من مختلف الخلفيات و المشارب الفكرية و السياسيّة ضدّ الكيان الصهيوني و جرائمه على التراب الفلسطيني المحتل و خارجه معبّرين عن الفخر بالإنتماء للشهيد و للمقاومة فعادت بوصلة فلسطين إلى محك الجدل العام.
في المقابل و بإستحياء شديد ماتزال السلطة الرسميّة في البلاد متلكّئة و تصريحاتها متضاربة و حتى قراراتها و خطواتها على خلفيّة العمليّة الجبانة متعثّرة و مثيرة للجدل وسط صمت تام من رئاسة الجمهوريّة و عدم توجيه أصابيع الإتهام بشكل مباشر للكيان الصهيوني بالوقوف وراء الجريمة خاصّة بعد تأكّد وقوف أذرعها وراءها.
قدّمت السلطات الرسميّة التونسيّة رواية عن عمليّة إغتيال المهندس محمد الزواري بنحو 20 رصاصة أمام منزله في ولاية صفاقس جاء فيها أن سيناريوهين قد تم التخطيط لهما من إحدى العواصم الأوروبية منذ شهر جوان الفارط في روايتين متقاطعتين و مطوّلتين لم توجه فيهما الشكوك بشكل رسمي بعد إلى الكيان الغاصب و أجهزته المخابراتيّة وسط حديث عن إعتقالات شملت كل من تم توظيفه أو تجنيده على التراب التونسي للمشاركة في العمليّة.
مقابل الرواية التقنية لحادثة إغتيال الشهيد المهندس محمد الزواري بصفاقس يوم 15 ديسمبر 2016، قدّمت مصادر من المقاومة الفلسطينيّة لصحيفة "الخبر اللبنانية" رواية مثيرة ورد فيها أن كتائب الشهيد عز الدين القسام تعدّ لمقطع فيديو ستطلقه خلال أيام للشهيد محمد الزواري و كشفت الرواية عن إسمه الحركي و عن مساهماته في تطوير المنظومة الدفاعية للمقاومة و على وجه الخصوص كشفت الرواية عن نتائج أوليّة للتحقيقات التي أجرتها المقاومة عن عملية الإغتيال و التي ورد فيها أن الجناة قد حاولوا إختطاف الشهيد قبل إغتياله لكنهم فشلوا في ذلك.
جنازة مليونيّة رمزيّة في تونس في ولاية صفاقس تحديدا أين تقطن عائلة الشهيد، و نعي رسمي من طرف المقاومة الفلسطينية التي نظمت خيمات عزاء لكل من كتائب الشهيد عز الدين القسّام ولجبهة التحرير الفلسطينية تلاه نعي رسمي آخر من طرف حزب الله على لسان مسؤول العلاقات العربية في الحزب حسن عز الدين مقابل محاولات يائسة في الداخل التونسي لتشويه و شيطنة الشهيد بسبب موقف إيديولوجي مرضي من حركة حماس و من الإسلاميين على إعتبار أن الشهيد إنتمى سابقا لحركة الإتجاه الإسلامي قبل أن يفر من تونس بسبب ملاحقته من طرف نظام الفساد والاستبداد.
مواكب العزاء و بيانات النعي و التظاهرات الشعبية و البيانات المتتالية لا تحجب أكثر من سؤال و أكثر من نقطة إستفهام متروكة في القضيّة لعلّ أوّلها يتعلّق بأسباب حالة الإرتباك التي سيطرت على السلط الرسميّة التونسيّة و ثانيها علاقة تراجع رئيس الحكومة يوسف الشاهد في ذات يوم الإغتيال عن زيارته لولاية صفاقس لأسباب أمنيّة بالعملية الغادرة و الأهم كيف إكتشفت أجهزة الموساد الصهيونيّة علاقة الشهيد المهندس محمد الزواري بالمقاومة و دوره في تطوير منظومة أسلحتها في السنوات الأخيرة؟
للشهيد محمد الزواري علاقة صارت معلنة بكلّ من حركة المقاومة حماس و حزب الله اللبناني والنظام السوري و من المعلوم أن تحرّكه في هذا السياق يعني علم ثلاث أجهزة بملف علاقته بالمقاومة أولها المقاومة نفسها أي كتائب الشهيد عز الدين القسام و حركة حماس أمّا ثاني الأجهزة فهو حزب الله اللبناني و ثالثها اللجنة العسكريّة لحزب البعث السوري التي تربطها علاقات وثيقة بعدّة أجهزة في المنطقة أي أن التسريب قد حدث من أحد هذه الثلاث.
بعد أكثر من أسبوع على إغتيال الشهيد محمد الزواري نعته حماس و كتائب القسام و نعاه حزب الله ولكن في المقابل صمت النظام السوري الذي حدثت وقيعة بينه و بين الشهيد بسبب موقفه من الثورة السوريّة الأمر الذي إستوجب فراره و زوجته من هناك عائدا إلى تونس و بما أنها ليست المرّة الأولى التي يتم فيها إغتيال من له علاقة بالمقاومة الفلسطينيّة بعد الوقيعة بينه و بين البعث السوري الذي يعيش أحلك فتراته بسبب ما آلت إليه الثورة السوريّة فإنّ الإجابة على السؤال المطروح أعلاه تحيل أصابع الإتّهام بشكل مباشر إلى اللجنة العسكريّة لحزب البعث السوري على خلفيّة الوقيعة التي حدثت بين الطرفين سنة 2012.
من المؤكّد أو من الثابت تاريخيّا أن المخابرات لا تترك وراءها ما يدل عليها و لكن الثابت أيضا أن بصمات هذه الأجهزة قد باتت معلومة لا فقط لدى من يقرؤون بطبيعة وماضي ومكانة الشهيد بل لدى من يعلمون طبيعة توازنات الرعب التي تعبث بالهندسة الكيانية لهذه الأمّة الجريحة منذ زمن و هنا في هذه الحادثة يطرح السؤال بقوّة عن حقيقة دور النظام السوري في عمليّة الإغتيال.