لا زالت دول أمريكا اللاتينية مناصرة للحق الفلسطيني ولقضايا دول الجنوب، على الرغم من كل النكد الرأسمالي، الذي عجزت كل الحدود الجغرافية والأيديولوجية والسياسية عن تطويقه.
ويفخر الفلسطينيون الذين يشكلون كتلة بشرية واقتصادية ذات وزن مهم في دول أمريكا اللاتينية، تفوق 600 ألف نسمة، بأنهم كانوا من العرب الأوائل الذين وطأوا هذه الديار واجترحوا لأنفسهم مكانا ضمن خارطتها الاجتماعية والاقتصادية ثم السياسية.
ولعل ما يثلج الصدر ويبكي الإنسان الفلسطيني في ذات الوقت، أنه إذا حل في أي دولة من دول أمريكا اللاتينية، لا يشعر بغربة الوجود، حتى وإن عجز لسانه عن التعبير عما يجيش في خاطره بلغة إسبانية فصيحة، وليس ذلك من العيوب التي نأخذها على الفلسطيني، أخذا بعين الاعتبار صوارف الشتات.
في تشيلي، التي أزورها للمرة الرابعة على التوالي، يفوق عدد الفلسطينيين 400 ألف نسمة، كثير منهم غدا اليوم من أعيان البلاد والنافذين الاقتصاديين. لم تشغلهم تحديات النجاح المهني ومتطلبات نشاطهم العلمي والاقتصادي عن التوجه إلى الفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي.
لا يكاد يخلو شارع في تشيلي من علامة تؤشر لفلسطين، محل تجاري يزدان بأعلام فلسطين، أو سوق قديم يحاكي أسواق تقسيم في اسطنبول والحامدية في دمشق أو السويقة في الرباط وفاس أو المدينة القديمة في تونس والقيروان وغيرها من الأسواق العربية والإسلامية، أو تاجر محلات فلسطيني تنطلق من مذياعه أهازيج الدبكة التي ظلت عنوانا فنيا لفلسطين.
وإذا يممت وجهك شطر النادي الفلسطيني في سانتياغو. أو المركز العربي في مدينة كونسبسيون جنوب تشيلي، وأرهفت السمع لمرتاديها من الفلسطينيين يتملكك الإحساس بالنشوة والفخر، وأنت تستمع لفلسطينيين يتحدر أغلبهم من أصل مسيحي، وهم ينطقون أسماء البلدات الفلسطينية بذات اللكنة العربية رغم أن لسانهم غير عربي بالمرة.
لن تشعر بالغربة إذا قدمت نفسك لفلسطينيي تشيلي، ولن يسألك أي واحد منهم إن كنت من أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام أو من أتباع سيدنا عيسى عليه السلام، يكفيك أنك فلسطيني.
وكعادة دول الجنوب التواقة للفعل دوما دشن فلسطينيو أمريكا الجنوبية، وقد تحولوا إلى جزء أصيل من هذه الدول، هذه الأيام، حوارات معمقة من أجل وضع حد لتفرقهم وتشتتهم من خلال التأسيس لنشاط سنوي على شاكلة مؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي اشتد عوده وبلغ من العمر عامه 15 هذا العام.
نشاط يستثمر الإنجاز الاقتصادي والسياسي الذي حققه الفلسطينيون في مواطن لجوئهم لصالح خدمة قضيتهم الأم والدفاع عن الحقوق الإنسانية الأصيلة لشعب تم اقتلاعه من أرضه ظلما وعدوانا، كما يستشعر ويستحضر في ذات الوقت قدرة الشتات الفلسطيني على الفعل السياسي في الداخل الفلسطيني، وقدرته على رسم خارطة المستقبل على الأرض لأن الاحتلال إلى زوال حتى وإن جال بخاطر البعض من أتباع المدرسة الواقعية أنه غدا أمرا واقعا لا مفر من القبول به.
في النادي الفلسطيني بسانتاغو وفِي المركز العربي بمدينة كونسبسيون فقط يمكنك أن تسمع صوت فيروز وهي تغني لحب الوطن، أو مارسيل خليفة وهو يغني للصمود والزمن الآتي من الانتصارات.. واقعية دول أمريكا الجنوبية مكنتهم من إنهاء دكتاتورية بيونيشيه ومحاسبته، وذات الواقعية هي التي دفعت بقادة العمل الفلسطيني إلى طرح السؤال: وماذا بعد تثبيت المواطنة وتحقيق النجاحات الاقتصادية والسياسية؟ ما الذي يمكن فعله لفلسطين؟
في تشيلي يمكن للفلسطيني، وهو بعيد عن الأرض أن ينسج الحلم من جديد ويطرق أبواب المستقبل.
* كاتب وناشط فلسطيني