لا يختلف اثنان على أن الثورة السورية، بعد خسارة
حلب الشرقية، تمر بأصعب مراحلها سياسيّا وعسكريّا، ولا سيما إذا عرفنا أن اللعبة غدت أكبر من اللاعبين السوريين (النظام، الثوار، الكرد) على الأرض، بعد تدخل اللاعبين الإقليميين والدوليين بشكل غير مسبوق. ومن هنا تأتي أهمية الاجتماع الثلاثي في موسكو، ونقاطه الثمان، فالدول المجتمعة تمسك بخيوط اللعبة في ظل غياب الدور الأمريكي - ولو مؤقتا- عن المشهد السوري.
وعدَّ بعضهم ما سُمّي "الاتفاق الثلاثي" فرصة ذهبية للحل السياسي، ومخرجا للمأزق الذي تمر به الثورة السورية، فالاتفاق ترعاه إلى جانب
تركيا؛ إيران وروسيا، وهاتان الدولتان هما من حقق "النصر" العسكري للنظام، ولا يستطيع النظام السوري الخروج عن إرادتهما، وبالتالي يستطيعان فرض أي حل سياسي يتوصلان إليه مع تركيا.
والحل السياسي المطروح ينبُع من مصالح الدول المجتمعة، ونستبعد من حديثنا هنا المصالح الاقتصادية وإن كان لها وزنها في حسابات هذه الدول، فروسيا تسعى لبناء جسور قوية مع الجانب التركي، جسور تبعدها عن الغرب الذي يُهدد الأمن القومي الروسي، كما تشارك إيران الأتراك كثيرا من الهموم، فالدولتان حريصتان على وحدة الجغرافية السورية بغض النظر عن الحاكم، فكلاهما لا يقبل بدولة كردية. وتريد الدول المجتمعة وضع الإدارة الأمريكية القادمة أمام الأمر الواقع، فاتفاقها فيما بينها يضعف الدور الأمريكي الذي ينظر إليه الجميع بريبة.
وفي المقابل، يُنظَر للاتفاق ونقاطه الثماني من قبل آخرين؛ باعتباره ورطة مرّة المذاق لا تقل مرارة عن خسارة حلب. فالحل السياسي الذي يفرضه المنتصر عسكريّا لن يُقدِّم للمهزوم ما عجز عن تحقيقه على الأرض، وبدا ذلك واضحا من خلال نقاط الاتفاق التي بدت عبارة عن أمنيات. فالمدقق بالنقاط يراها لا تشتمل على أية خطوة حقيقية تُبشر بالحل السياسي الذي يحقق استقرارا ورخاء.
ومن يتتبع بنود الاتفاق يغرف من الكلام المعسول حتى يصل للجملة الأخيرة في البند الأخير "العمل على فصل داعش وجبهة النصرة عن مجموعات المعارضة المسلحة" ليلعق السم الزعاف.
فالهدنة العسكرية والحل السياسي لن يتم قبل فصل "جبهة
فتح الشام" عن بقية الفصائل المسلحة، وهذا أمر شبه مستحيل في ظل الوضع العسكري الحالي، سواء رغبت الفصائل بذلك أو لم ترغب.
وبدت الجملة الأخيرة وصفة إضافية لتفريق الثوار شذر مذر، وبدا أثر ذلك واضحاً في مباحثات الاندماج بين الفصائل الثورية، فغدا الحديث عن صف أخضر وآخر أسود. والانقسام الحاصل داخل حركة أحرار الشام بخصوص الاندماج مع "جبهة فتح الشام" وغيرها من الفصائل؛ يثبت مقدار الورطة التي تنطوي عليها الجملة الأخيرة. فالرافضون للاندماج، سواء من حركة أحرار الشام أو غيرها، مع "جبهة فتح الشام"؛ يعدون الاندماج مع الجبهة انتحارا سياسيا وعسكريا، وفقدانا للأمل الأخير بنجاح الثورة السورية، فيما يرى الطرف الآخر في الاندماج فرصة أخيرة لإنقاذ الثورة، فالاندماج نواة لجيش وطني تذوب فيه كل المسميات، ويرون حل جبهة فتح الشام مطلبا تعجيزيا يخفي وراءه رفض الاندماج.
وتعزف
روسيا ببراعة على وتر فصل المعارضة المعتدلة عما تسميه الإرهابية، وتقدمت خطوات في هذا المجال، فقد طالب لافروف قبل شهور، وبإلحاح شديد، إدراج فصائل جيش الإسلام وأحرار الشام وفيلق الشام وغيرها؛ ضمن التنظيمات الإرهابية، ولكن بلاده اليوم تتفاوض معها في أنقرة باعتبارها فصائل معتدلة ينبغي لها الابتعاد عن جبهة فتح الشام، مما يدلل أن الهدف تشظية المعارضة المتشظية، والحيلولة دون أية محاولة وحدوية.
فقد وعى الثوار درس حلب جيدا من الناحية النظرية، وأدركوا أن سيناريو حلب سيعاد ثانية وثالثة حتى يُقضى على الثورة؛ ما لم يتوحد الصف، وتصطدم الناحية العملية بالضغوط الإقليمية والدولية.
ويتخوف المعارضون لهذا الاتفاق من الدور الأمريكي الذي سيلعبه ترامب، ومن المحتمل إفشال الاتفاق الثلاثي، والثوار هم الحلقة الأضعف. بالإضافة إلى ذلك، قد يستمر ترامب في نهج سياسة أوباما فيما يتعلق بالملف الكردي، وهذه الخطوة كفيلة بإرجاع تركيا إلى المربع الأول، وخطوة متقدمة لتثيبت التقسيم.
وتشير الأخبار الواردة من أنقرة لوعي الثوار عمق الورطة، فالغالبية تعتقد أن استثناء فتح الشام أو منطقة معينة من الهدنة هدفه السماح للنظام الاستفراد بمزيد من المناطق، وإعادتها لحضن الوطن "الأسد". ويبقى خلاف الثوار حول طرق الخروج من ورطة أخرى، فالوقت لا يلعب لصالحهم إلا إذا فاجأ ترمب الجميع وتدخل بالملف السوري فعند ذلك تختلف حسابات الجميع.