في الأمس ودّع ثوار
سوريا مدينة
حلب، وبهذا الوداع فتحت أبواب جديدة لشكل الصراع الدائر في البلاد مع إثارة التباسات ما انفكت تتغلغل في عقول الناس حول الصمت عن ظلامية المشهد، الذي ارتبط بالموت الجماعي والخراب غير المسبوق، حتى في أعنف الحروب وأشدها فتكا على الإطلاق. فهذه المدينة التي صمدت لسنوات طوال رغم بشاعة آلة القتل، حوصرت بأيام قليلة وأطبق على أهلها الموت الزعاف من كل الجهات، بعد قرارات حيكت بالخفاء ساهم بترتيبها من ادعوا بأنهم مناصرون للثورة والشعب السوري، لكن مناصرتهم هذه لن تخرج من طور الكلام النظري، فأرشيف خطاباتهم مليء بلغة التهديد المعنونة بـ"الخطوط الحمر"، ووعود التسليح وحتمية سقوط النظام المجرم.
خرجت حلب أو أخرجت من معادلة المطالبين بالحرية، لكن لسان حالهم يقول: المدن لا تسقط وإنما يدخلها الساقطون، مستذكرين ما فعل هولاكو بالمدينة وأهلها عام 1260، فنصره آنذاك شبيه بنصر بشار الأسد اليوم؛ فتوّجَه موالوه بطلا مغوارا على خراب المدينة وبقايا أشلاء أهلها المتناثرة في كل مكان. نصر صنعه كل مرتزقة الأرض وجبابرتها، فما ادعاه نصرا؛ قالت عنه روسيا إنه نصرها وبفضل جنودها وعتادها، وكذلك قالت إيران ومليشيات حزب الله والعراق.
استغل بشار الأسد ومناصروه تخاذل العالم عن نصرة السوريين للإجهاز على المدينة، وجعلها عبرة لكل المدن الثائرة. فقبل أن ينهي تدمير حلب، أثير الحديث عن الوجهة التالية بعدها، التي قد تكون إدلب أو الغوطة الشرقية أو درعا، فهو غير مكترث لخطابات التهديد العالمية، ولا بقرارات الأمم المتحدة ومجلسها الأمني، بعد أن لمس وعرف جيدا أنه، بعد كل تجاوز لخط أحمر وهمي، يرتفع سقف الإجرام لديه، ويرخص له فعل ما يشاء بالشعب الأعزل صاحب
الثورة اليتيمة، رغم أن كبرى دول العالم اصطفت وأطلقت على نفسها لقب "أصدقاء الشعب السوري"، وهم يرون في كل ساعة كيف يذبح وينكل به، إلا بعض التصريحات الصادرة عنهم التي لا تغني من جوع، دون أن تقترن بأفعال تساعد في وقف سيل الدماء ولجم القاتل المتغطرس بجرائمه.
تقول منظمة اليونسكو إن تاريخ حلب يعود إلى 12200 سنة قبل الميلاد، وهي أقدم مدينة في العالم، حيث تسبق دمشق بثلاثة آلاف سنة. لكن طوال هذا التاريخ لم تعرف المدينة مجرمين مروا عليها بمستوى بشار الأسد وحلفائه؛ الذين دمروا من وصفت يوما بأنها درة طريق الحرير الممتد من الصين والهند شرقا حتى أوروبا غربا، فالمدينة العامرة بقلعتها وسوقها المسقوف وجامعها الأموي وكنائسها وحماماتها وبيوتها الأثرية، باتت اليوم أثرا بعد عين، ومسكننا للغربان السود التي تنعق فوق جثث أصحابها المطالبين بالحرية، وسط عالم صم الآذان عن نداءاتهم وأسدل الستار على العيون لكي لا يرى ماذا حل بهم.
شاهد العالم بأصدقائه وأعدائه التدمير الهائل والمنهجي لحلب، عاصمة سوريا الاقتصادية، فآلاف المصانع والمحترفات والمنشآت الصغيرة والمتوسطة دمرت بشكل كامل بفعل القنابل الارتجاجية الروسية. وهي التي كانت تستوعب نحو 25% من قوة العاملة السورية. وتقول بعض الدراسات إن دمار المدينة لم يعرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، ويحتاج إعادة إعمارها عشرين عاما، وبتكلفة تفوق الـ150 مليار دولار، كما أشار البنك الدولي في بداية العام 2016 إلى أن نسبة الدمار في حلب بلغت نحو 60%، ومع كل هذا لا يزال حديث مهندسي سياسة العالم منصبا حول إحياء المفاوضات مع هذا النظام المجرم، الذي جلب المحتل للبلاد، وربما لاحقا يتم إعادة تهيئته وتلميعه من جديد ليبقى قي حكم سوريا.
في عام 2011 خرجت عشرات المدن والبلدات السورية بمظاهرات "جمعة بركان حلب"، وهي تعول على الأخت الأكبر في الخلاص وصنع النصر، وربما وجعها اليوم سيكون سببا في صحوة الثوار ويقظتهم، فما جرى في هذه المدينة سيلهب في قلوب الناس حقيقة أن الثورة لن تنتصر إلا بأبنائها، وهذا ما ثبت للعيان من خلال المظاهرات التي خرجت مؤخرا في داخل سوريا وبلاد الشتات، التي قالت للعالم ستبقى حلب وصمة عار في جبين إنسانيتكم المتخاذلة.
في الحقيقة، إن قدرنا كشعوب عربية أن نتفاعل مع كل معركة انتخابية غربية، سواء تعاطف مرشحوها مع قضايانا أم لم يتفاعلوا. نحمّي نحن وطيسها ونترقب نتائجها، كما لو أن المنتصر فيها سينثر فوق بلداننا رياحين الجنة، ويعد لنا في دياره متكأ بعد أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا. لكن الواقع والتاريخ يقولان إن هذه المعارك لها أهلها ونحن "لا ناقة لنا فيها ولا جمل"، سوى إيقاظ الحرمان داخلنا تجاه طقوس كهذه؛ لأننا نشأنا والوجوه ذاتها تحكمنا ولم يتغيروا لدرجة أن دولنا سميت بأسمائهم، فحلال لهم الديمقراطية وحرام علينا المطالبة بالتغيير.
ما يربطنا بانتخابات الغرب، هو حلم الغريق الذي يتعلق "بقشة" النجاة؛ وما سيفعله من أجلنا من ستؤول إليه زمام الأمور، فهم يحكمون دولا عظمى وبيدهم القرار العالمي، لكن وبكل تأكيد لن يناصرونا ويدافعوا عن حقوقنا.