تمر منطقتنا العربية والإسلامية بموجة متسارعة من التطورات والتغييرات المهمة التي ستعيد رسم ملامح خريطة المنطقة، وهذه التطورات المتلاحقة التي يحدث بعضها بتدافع ذاتي أو بتدبير خارجي لا ينبغي أن تمر مرور الكرام أمام قادة ثورات الربيع العربي، بل عليهم الاشتباك معها، والتأثير في مساراتها، والاستفادة من بعض نتائجها، أو حتى تجنب الآثار السلبية لبعضها.
كشفت التطورات أن روسيا أصبحت اللاعب الرئيس في المنطقة، وقد تمكنت عبر تحالف مع إيران من انتشال نظام بشار الأسد من سقوط وشيك، وتحويل هزائمه إلى انتصار جزئي في معركة حلب.
وإلى جانب روسيا، ظهر أن القوتين الإقليميتين صاحبتا التأثير هما إيران وتركيا، إلى جانب أدوار محدودة لكل من السعودية وقطر.
وظهرت أثيوبيا قوة إقليمية مهمة في أفريقيا، تستطيع فرض شروطها على أكبر دولة عربية، وتستطيع في الوقت ذاته أن تمد جسور تواصل مع دول عربية وإقليمية أخرى، وتجذب استثماراتها.
في حين تمر السياسة الأمريكية في المنطقة بمرحلة تغير أيضا مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، خلفا لأوباما، الذي انسحبت إدارته بهدوء وبشكل تدريجي من منطقة الشرق الأوسط، تاركة المجال لروسيا وإيران وتركيا.
ورغم أن ترامب يبدي اهتماما أكبر بالحضور في المنطقة وفقا لمنهجية جديدة، تقوم على إلزام الدول الخليجية علنا بدفع تكاليف سياسات واشنطن وتحركاتها في المنطقة، إلا أنه ليس معروفا حتى الآن، إن كان سيقود تغييرا جذريا في سياسات بلاده تجاه المنطقة، في ظل وجود مؤسسات كبرى تقتسم عملية صنع القرار الأمريكي، ولا تسمح لأحد بالخروج الكامل على ثوابتها.
ومن هنا، فمن المحتمل أن يواجه ترامب صعوبات -في فرض توجهاته- من بعض المؤسسات الأمريكية الثقيلة التي لديها رؤيتها المستقرة للأمن القومي الأمريكي وتشابكاته الدولية، ومن الممكن أن يستطيع ذلك في ظل تصاعد الموجة اليمينية المتطرفة في الغرب عموما.
لعل أحدث مظاهر التغيرات الإقليمية، هو تخلي سلطة الانقلاب في مصر عن دعم القضية الفلسطينية، بسحبها لمشروع قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما كشف جانبا آخر من الصورة عبر تصدي أربع دول غير عربية لهذه المهمة، وهي ماليزيا ونيوزيلندا وفنزويلا والسنغال، متحدية بذلك الكيان الصهيوني والشبكات الدولية الداعمة له.
كشفت سلطة الانقلاب بهذا التصرف، مدى انبطاحها أمام تل أبيب، الراعي الرئيس لها حتى الآن. وقد أسهم هذا الموقف الانبطاحي للكثيرين في مصر، ممن كانوا يدعمون نظام السيسي، خطأ رهاناتهم عليه، وخطأ تصنيفهم له من قبل، باعتباره خليفة جمال عبد الناصر في مواجهة المشروع الصهيوني.
وكشف مدى خطورته على الأمن القومي المصري والعربي، ومن هنا، فمن المتوقع أن يتراجع الكثيرون عن دعمهم للسيسي، الذي تتآكل شعبيته يوما بعد يوم، ولم يعد له من سند سوى اعتماده على مصادر القوة العسكرية في الجيش والشرطة داخليا، وعلى الدعم الإسرائيلي والأمريكي (المرتقب في عهد ترامب) خارجيا.
ما حدث في مجلس الأمن من اعتماد مشروع قرار إدانة الاستيطان لأول مرة منذ حوالي 40 عاما، هو حدث تاريخي، رغم أن القرار يمكن أن يلحق بقرارات دولية سابقة، رفضت إسرائيل تنفيذها.
وأعلنت بالفعل عدم قبولها أو تنفيذها له، وهي تراهن على الإدارة الأمريكية الجديدة لدعمها في موقفها الرافض للقرار، لكن القرار يظل بمثابة مرجعية دولية جديدة يمكن الاستناد إليها، لمن أراد اتخاذ أي قرارات تنفيذية بشأن المستوطنات مثل مقاطعة منتجاتها، ومنع السفر إليها، وعدم التعامل دوليا مع من يحملون هويات صادرة عنها.
وكل ذلك، يمثل قدرا رمزيا من الضغوط على الكيان الصهيوني، بانتظار تحسن موازين القوة، لتنفيذ القرار بشكل كامل.
كما أن شجاعة بعض الدول غير العربية في تقديم مشروع القرار، يكشف أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة على الأجندة الدولية، ولا تزال تتمتع بأنصار وداعمين في قارات العالم المختلفة، وهذا مكسب يستحق البناء عليه، لصناعة المزيد من الضغوط الدولية على الكيان الصهيوني، والتواصل مع العواصم الداعمة للقضية على مستوى الحكومات وقوى المجتمع المدني فيها.
وينبغي استثمار الزخم الحالي للقرار الأممي، بترتيب زيارات ولقاءات رسمية وشعبية مع مسؤولي حكومات الدول التي قدمت مشروع القرار، لتحيتها ومطالبتها بممارسة نفوذها لتطبيق القرار، حتى لو بدأت بنفسها، بفرض حظر على كل ما يمت للمستوطنات بصلة، باعتبارها مخالفة لهذا القرار الدولي، خطوة رمزية أولية على طريق المزيد من الخطوات الأكبر لمقاطعة الكيان الصهيوني بشكل كامل، ومحاصرته دوليا، ودعم قوى المقاومة له في الداخل الفلسطيني.
كما أن هذه الدول الأربع التي قدمت مشروع قرار إدانة الاستيطان، مؤهلة أيضا لدعم ثورات الشعوب العربية، من أجل حريتها وكرامتها، والأمر يحتاج بذل مزيد من الجهد في التواصل مع قياداتها، على المستويين الرسمي والشعبي لهذا الغرض.
من التغيرات المهمة إقليميا أيضا، التقارب التركي الروسي الذي صمد أمام اختبار اغتيال السفير الروسي في تركيا.
وهناك مخاوف مشروعة، من أن يكون هذا التقارب على حساب الثورة السورية، أو اقتسام النفوذ عليها بين هذين القطبين الكبيرين، وهذا ما يحتم على فصائل الثورة السورية المسارعة بالتوحد سياسيا وعسكريا، حتى تكون قادرة على تحقيق إنجازات عسكرية على الأرض، تعيد الثقة فيها، أمام الأطراف الإقليمية الداعمة لها، التي شعرت بالإحباط منها، خلال الأشهر الماضية بسبب تشتتها، والتنازع، بل الاقتتال بينها.
الأمر ذاته ينطبق على القوى الرافضة للانقلاب وحكم العسكر في مصر، التي لم تستطع أن تقدم بديلا مقنعا شعبيا ودوليا خلال الفترة الماضية، رغم تراجع شعبية السيسي وحكمه.
وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت بالتحرك العاجل لتوحيد قواها وجهودها، في عمل مشترك يقنع الشعب المصري بوجود بديل حقيقي لسلطة العسكر، ويقنع المجتمع الدولي (خاصة الداعم للديمقراطية)، بوجود بديل يعتمد عليه في حكم مصر أيضا.
وهناك مؤشرات على تقدم المعارضة المصرية في الطريق الصحيح نحو هذا الهدف، فقد تمكنت مؤخرا من إنجاز عمل رمزي مشترك، وهو ميثاق شرف وطني، شارك في التوقيع عليه ممثلون لقوى سياسية، وشخصيات عامة من مختلف التيارات السياسية المصرية في الداخل والخارج.
وهذه الخطوة ينبغي أن يتبعها خطوات أخرى، وصولا إلى كيان جامع للقوى الثورية بتنوعاتها الإسلامية والليبرالية واليسارية والمستقلة، يمثل مظلة للثورة المصرية، وعنوانا لها أمام الداخل والخارج.