في الوقت الذي كانت روسيا مزهوة ومنتشية بإحكام سيطرتها على مدينة
حلب بمشاركة القوات السورية إلى جانب حلفائها من الإيرانين ومليشياتهم الشيعية العراقية وحزب الله اللبناني، وغيرهم، كانت القوات الروسية وحلفائها في تدمر تتعرض للإذلال على يد مقاتلي تنظيم الدولة اللذين أجبروا القوات الروسية على الفرار والانسحاب، وخسارة معدات عسكرية كبيرة، وتكبيد القوات السورية والمليشيات خسائر بشرية فادحة، بين قتيل وأسير، لكن ما تحار فيه الأنظار، لماذا لم نلحظ أي مقاومة جدية لفصائل المعارضة المسلحة في حلب، واستسلمت دون رغبة في القتال.
يمكن فهم سلوك المعارضة المسلحة في حلب وسائر المناطق التي تقع تحت سيطرتها باعتباره نتاجا منطقيا لمسار دولي عقيم، للعبة استراتيجية دولية وإقليمية، تموضعت في أحشاء "حرب الإرهاب"، للتخلص من استحقاقات خيباتها الإنسانية، والتغطية على فشلها السياسي وإفلاسها الاقتصادي، وخوائها الإخلاقي، تماهت معها أنظمة استبدادية محلية ظلامية، ارتعبت من مصائر الثورات في المنطقة ومآلاتها.
إذ شكلت المحطة السورية طوق نجاة للإمبرياليين والطائفيين والدكتاتوريين دوليا وإقليميا ومحليا، فقد كان السؤال منذ البداية، هل يمكن لتلك القوى أن تكون ظهيرا للثورة في الوقت الذي تنشد فيه الثورات التخلص من أمراض وأوبئة وسموم تلك الطغم، للوصول إلى الحرية والكرامة والعدالة؟ وهكذا، فإن المعارضة المسلحة باتت أحد القطع الصغيرة على رقعة الشطرنج السورية الكبرى.
تلخص مأساة حلب سلسلة من السياسات والتدخلات الدولية والإقليمية والطموحات الجيوسياسية والصراعات الهوياتية، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات، فشلت الأطراف كافة في فرض منظوراتها الاستراتيجية وتصوراتها المستقبلية، حيث تولدت قناعة لدى أطراف المعادلة كافة، أن بقاء النظام السوري أفضل من زواله، ذلك أن السؤال المركزي المقلق في الحالة السورية تمثل بمن سيحكم
سوريا في حال إنهيار نظام الأسد؟ الذي بدت إجابته بدهية لدى الجميع إنهم "الإسلاميون السنة"، وتلك كارثة بشتى المعايير الدولية والإقليمية والمحلية، ذلك أن" الإسلام السياسي السني" بات يكافئ مفهوم "الإرهاب الدولي".
في سياق الفشل، شكلت التفاهمات الأمريكية الروسية لحظة فارقة في ديناميكية الصراع السوري منذ أيلول/ سبتمبر 2015، وذلك بتقاسم النفوذ والأعمال العسكرية، للحيلولة دون تحول سوريا إلى نقطة مواجهة جيوسياسية دولية، وصولا إلى فرض تسوية سياسية، من خلال عقد اتفاقية هدنة على أساس بيان فيينا في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، الذي دخل حيّز التنفيذ في 27 شباط/ فبراير 2016.
واستثنت التسوية كلا من تنظيمي "الدولة الإسلامية" و"جبهة النصرة"، وقد أكد الاتفاق بين موسكو وواشنطن على تثبيت وقف إطلاق النار، والأعمال العدائية كافة، بالتزامن مع استئناف العملية السياسية في جنيف، وفقا لخارطة الطريق الذي نص عليه القرار 2254.
منذ التدخل الروسي، باتت الأدوار أكثر تحديدا، وانتهت إلى اتفاق هش تتقاسم فيه أمريكا وروسيا حرب الإرهاب، كل وفق منظوره الخاص، لكن قاعدته الرئيسة تتمثل بإخراج "الإرهابيين" المفترضين من المدن.
فالولايات المتحدة اقتصرت جهودها على سرديتها الكونية المتعلقة بالحرب على الإرهاب، ممثلا بتنظيم الدولة الإسلامية أولا، وحلفاء القاعدة ثانيا، ولذلك قصرت دعمها على القوى المستعدة للانخراط في مشروعها، وتولت روسيا التعامل مع فصائل المعارضة المسلحة كافة، باعتبارها حركات إرهابية.
وبهذا أصبحت اللقاءات المنتظمة بين وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، ووزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، تبحث عن أفضل الطرائق والسبل للتوصل إلى اتفاق حول التعاون العسكري ومسألة وقف الأعمال العدائية في أنحاء سوريا كافة، وهي مصطلحات تنطوي على رطانة بلاغية، تعني إطلاق يد نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم بحصار المدن والضواحي السنيّة، وخنق المعارضة، وإجبارها على الخضوع والاستسلام.
الأمر الذي يبدو أكثر سهولة في الحالة العراقية بإطلاق أمريكا يد قوات الجيش العراقي والبيشمركة الكردية والحشد الشيعي.
في سياق البحث عن تفاهم مشترك بين أمريكا وروسيا، شكل موضوع الإرهاب وتعريف الحركات والجماعات الإرهابية، إحدى نقاط الخلاف النظري المفيد، ورغم أن الاتفاق توصل إلى التركيز على التصدي للحركات الموسومة بالإرهاب، بحسب تصنيفات
الأمم المتحدة، وهي تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة.
إلا أن الخلافات على الصعيد العملي كانت طفيفة، فقد ركزت استراتيجية الولايات المتحدة على القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، وخصصت مواردها العسكرية والسياسية والمالية على استقطاب قوى تعتبرها معتدلة، لاستدخالها في الحرب ضد
داعش.
أما روسيا، فقد تبنت استراتيجية تقوم على حماية المنطقة العلوية الساحلية، وتعزيز موقع الأسد، ودحر قوات المعارضة المسلحة عن المدن الكبرى، وقطع خطوط إمدادها من الحدود التركية، وتتعامل مع الفصائل كافة باعتبارها إرهابية.
إذا كانت الخلافات الأمريكية الروسية بناءة في سياسة حرب الإرهاب المتخيل، فإن خلافات
المعارضة السورية كانت مدمرة، فهي تتموضع داخل منظورات الفلسفة الإرهابوية السنية، وتفشل دوما في البرهنة والحجاج على اعتدالها، ولا يفيدها التبرؤ من الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة، وأن تخضع لاشتراطات لا تساهم في إعادة تأهيلها، وقد تجاهلت مسألة الاستدارة التركية نحو روسيا، ولم تدرك أن تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة أصبحت أكثر براغماتية، وأعادت تموضعها في الحقل الإرهابوي الدولي عبر التقارب مع الروس.
وما حدث في حلب، كان نتيجة منطقية لثورة بدون ثوريين، وجهادية بدون جهايين، حيث استسلمت المعارضة لمنظورات حرب الإرهاب، وأقرت بإرهابيتها على سلم الإرهاب الممتد، ففي الوقت الذي كانت حلب تشهد فيه لحظات حصارها الأخيرة، كان "الائتلاف" يعقد اجتماعا لهيئته العامة في إسطنبول، ليشدد على أنه يلتزم قرارات مجلس الأمن، الذي يعتبر جبهة النصرة وجبهة فتح الشام منظمتين إرهابيتين.
وفي داخل حلب، كانت الفصائل تجتمع لإعادة تعريف الثورة والجهاد والأمة والدولة، أسفرت عن تصدع "حركة أحرار الشام"، حيث أعلن قائدها الأسبق هاشم الشيخ (أبو جابر) عن توحد 16 فصيلا تحت اسم "جيش الأحرار".
وقد جاء هذا القرار بعد انتخاب علي العمر قائدا لـ"أحرار الشام"، في ظل خلافات معروفة على خلفية عملية "درع الفرات" التركية، وقد هيمن على السجال والحجاج بين أطراف الحركة مسألة تعريف وإعادة النظر في مبادئ الحركة التأسيسية، حيث أكد "جيش الأحرار" على أن مبدأ الحركة يقوم على أساس أنها "مشروع أمة"، وليس "ثورة شعب".
قد يبدو للناظر أن الجدل حول مفهوم الحركة في اللحظات الأخيرة من سقوط حلب تتطابق مع واقعة "الجدل البيزنطي"، وهو كذلك من ناحية الزمان والتوقيت، لكن الحقيقة أن الواقعة تكشف عن الخلل العميق الذي أصاب قوى الثورة السورية، عندما أصبحت بيادق في لعبة الأمم، وخاضعة لمعضلات التمويل والأجندة، وهي قوى دولية وإقليمية متموضعة في أطر حرب الإرهاب، ولا تتوافر على أجندة ثورية تحررية، حيث عملت على توظيف المعارضة ضمن أجندتها الخاصة، وأخضعت هذه الفصائل لمفاهيم "الإرهاب" المراوغة، كما أنها قتلت فيها الرغبة بالقتال، وأحيت الشوق إلى الجدال.
في سياق التوصل لاتفاق أمريكي روسي، يحافظ على الأنظمة القائمة في العراق وسوريا، تم التوصل لسيناريوهات شبه موحدة، بالتعامل مع الظاهرة الجهادية الإرهابوية، حيث تقوم أمريكا بحصار الموصل ثم طرد قوات تنظيم الدولة، وتعمل روسيا على حصار حلب وطرد المعارضة.
وتموضعت كل من إيران وتركيا داخل هذه الاستراتيجية، بحيث عملت إيران على فرض قواتها على الأرض لتحقيق أهدافها، وقامت تركيا بعمل مماثل.
وعلى الجانب السوري، قامت روسيا بإسناد الجيش السوري وحلفائه من الإيرانيين ومليشياتهم الشيعية، لفرض السيطرة على ممر أعزاز، للتمكن من قطع المنافذ الشمالية بين مدينة حلب وتركيا، وهي عملية بدأت منذ 2 شباط/ فبراير 2016، بمشاركة قوات شيعية موالية للنظام، في بلدتي نبل والزهراء، وعناصر من "حزب الله" اللبناني، ومليشيات شيعية مدعومة من إيران، أمثال "كتائب بدر" العراقية وميليشيا "الدفاع الوطني" السورية المحلية.
وفي الوقت ذاته، شاركت قوات "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي المتعاونة مع الجيش السوري بمحاولة الإطباق على أعزاز، ومحاصرة فصائل المعارضة.
ومع مطلع أيار/ مايو 2016، أصبح طريق الكاستيلو الحيوي عنوان المعارك الكبرى في حلب، بين فصائل المعارضة وقوات الحرس الثوري والباسيج الإيرانية وحزب الله اللبناني المدعومة بالطيران الحربي الروسي، إلى جانب خان طومان، التي تعدّ النقطة الأقرب للطريق الدولي الرابط بين دمشق وحلب، وتعدّ تجمعا رئيسا لقوات النظام في ريف حلب الجنوبي.
ومع حلول تموز/ يوليو 2016، كانت حلب ساقطة عسكريا تماما، وأصبح الإعلان عن ملاحم حلب وجيوشها أقرب للرومنسية.
إحدى المسائل الغرائبية في الحالة السورية، أن فصائل المعارضة الثورية والجهادية كلا بحسب منطقه الإيديولوجي أو اللاهوتي، كان ينشد الدعم والتمويل والتسليح من قوى إقليمية ودولية، لا تؤمن بالثورة، ولا بالجهاد، بل تعمل ليل نهار على حربه وتدميره.
إذا صرفنا النظر عن القوى الإقليمية، خصوصا الخليجية، التي تفتقر إلى أي استراتيجية، سوى الحفاظ على حكمها وأنظمتها، وتصدير أزماتها، فإن ركون المعارضة السورية للغرب عموما وأمريكا خصوصا هو مأساة أشبه بالملهاة، وتكمن طرافتها باعتقادها بأن سياسة الولايات المتحدة الخارجية لا سيما في سوريا في عهد أباما، كانت سيئة وكارثية.
وهي كذلك، ولاشك، فقد انشغلت إدارة أوباما في تصنيف فصائل المعارضة إلى معتدلين ومتطرفين، وارتكز نهجها العسكري والاستراتيجي على أولوية حرب الإرهاب، بحسب التعريفات الأمريكية، ونسج تحالفات مع قوى محلية بذلت جهودا مضنية في تأسيسها وإنشائها وتدريبها وتمويلها، كما هو حال قوات الجيش العراقي والبيشمركة الكردية، وكما هو حال قوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها الكردية وإكسسواراتها العربية والسريانية وغيرها، وكذلك عبر غرف التنسيق العسكري والأمني المشترك مثل غرفة الموك التي تتحكم في تسليح وتدريب وتمويل فصائل الجبهة الجنوبية.
لكن المفارقة، هي أن أمريكا أوباما سوف تصبح مقياسا للسعادة والرفاهية، ففي عهد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، لن تشغل إدارته نفسها بالتقاليد الدبلوماسية، ولن تكون معنية بالبحث عن المعتدلين في دار الإسلام، فالحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها هي إرهابية بالقوة والفعل، لا فرق بين الإخوان المستسلمين ولا القاعديين المتمردين.
وبهذا، فإن فصائل المعارضة السورية على اختلاف توجهاتها الثورية والجهادية لا مكان لها في عالم أمريكا القديم والجديد.
خلاصة القول، إن محطات خروج شرق حلب من سيطرة المعارضة كانت واضحة، لكن سرعة تسليمها كانت مثيرة، فقد تكشّف الأمر عن فقدان رغبة الفصائل بالقتال والاستسلام دون مقاومة تذكر، وهي مسألة مفهومة، في ظل غياب رؤية محددة فضحتها الإعلانات عن تشكيل وفض الائتلافات والجبهات والملاحم والجيوش، والارتهان للتمويلات الإقليمية والدولية، والاستسلام لسردية الإرهاب العالمية، التي أفضت لخسارة المتضامنين الحقيقين مع الثورة السورية من المقاتلين العرب والأجانب، الذين بدلا من تقبيلهم، انشغلت المعارضة بتقتيلهم.
وهكذا، فإن حلب تؤشر على أشياء مستقبلية أخرى، مثل تنامي إيديولوجية تنظيم الدولة الإسلامية التي برهنت على قدرتها على حرمان القوى كافة من المبالغة بالاحتفاء والفرح، عبر إلحاقها هزائم مذلة لقوى دولية وأقليمية ومحلية متعددة في العراق وسوريا، من دعاة الإنسانية والحرية والعدالة والكرامة، وأظهرت الوجوه القبيحة للإمبريالية والطائفية والدكتاتورية.