لحظتان مختلفتان في المضمون وفي الدلالة، من جهة عودة الجيش السوري إلى مدينة حلب إعلانا عن المأزق الذي انتهى إليه مشروع الثورة في هذا البلد، بعد عناء كبير تجاوز كل التوقعات، وفي المقابل يحتفل
التونسيون بالذكرى السادسة لحادثة احتراق
البوعزيزي التي تمت يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2010، التي اتسعت شرارتها لتنتقل الى كل من ليبيا ثم مصر، وتستقر في دمشق بعد أن أطاحت بأربعة رؤساء لم ينجحوا في تهدئة شعوبهم التي طالبتهم بالرحيل، قبل أن يتخلى عنهم حلفاؤهم الغربيون.
لعل من أهم الأسئلة التي تفرض نفسها عند الوقوف أمام هذين المشهدين المتناقضين: لماذا نجح التونسيون في تأمين انتقالهم السياسي بأقل كلفة وأكثر نجاعة، رغم الصعوبات التي لا تزال قائمة في طريق ديمقراطيتهم الناشئة، في حين مني السوريون بكل هذه الخسائر في الأرواح، وفي الحجر، وفي ثروتهم البشرية، دون أن يتمكنوا بعد خمس سنوات من الإطاحة بالنظام، والشروع في إنجاز بديل سياسي منبثق عنهم ومنهم؟
يجب الإقرار ابتداء، بأن بين البلدين اختلاف كبير وجوهري في بنية النظام السياسي لكل منهما. فالنظام السياسي التونسي بني بشكل مدني وحافظ على طبيعته، حتى عندما أمسك به رجل عسكري برتبة جنرال.
فعلى الرغم من احتكاره السلطة واعتماده على منظومة أمنية قاسية، إلا أن النظام بقي محكوما بالبيئة الاجتماعية والسياسية التي انبثق منها، ولهذا، عندما تخلت عنه هذه البيئة، انهارت الشخصية الأولى ولم تجد من يقف إلى جانبها، بما في ذلك الجيش وأجهزة الأمن.
الأمر مختلف تماما في
سوريا، فنظام حزب البعث ارتبط من جهة بهيمنة الطائفة العلوية، ومن جهة أخرى استند في حكمه على المؤسسة العسكرية، وعلى منظومة أمنية قاهرة.
ولهذا، لم يكن الرئيس بن علي قادرا على التمسك بالسلطة بأي ثمن، في حين أن الرئيس بشار الأسد رأى ولا يزال، بأن استمراره في الحكم مسألة حياة أو موت، ولهذا قرر البقاء والمواجهة حتى النهاية، مستعملا كل الوسائل والاختيارات المتاحة أمامه.
لكن، إلى جانب طبيعة النظامين، هناك عوامل أخرى لم تخدم الثورة السورية وألقت بها في هذه المتاهة الفضيعة. ويمكن أن نشير إلى أبرزها:
أولا: عسكرة الثورة، وهو تحول مفاجئ حصل في وقت مبكر، وأدى إلى حدوث منعرج خطير استفاد منه النظام بشكل واسع، وألحق أضرارا جد مدمرة بالمدنيين.
لا شك في أن النظام تعامل بقسوة شديدة مع الحراك الاحتجاجي السلمي، الذي كسر حاجز الخوف وخلق وعيا مدنيا عاليا، إلا أن أجهزة الجيش والشرطة تصدت لذلك بوحشية رهيبة.
لكن مع ذلك، لم يكن التسرع في حمل السلاح الرد الأفضل على سياسة النظام، لأن هذا الاختيار فتح أبواب جهنم على الجميع.
فالحصول على السلاح يحتاج إلى مال قارون، ولتذليل هذه الصعوبة لابد من الاستعانة بقوى إقليمية ودولية لها حساب تريد أن تصفيه مع النظام السوري وحتى مع سوريا بلدا وشعبا.
وهكذا، تراجع صوت الحركة الديمقراطية السلمية المدنية، ليرتفع في المقابل صوت السلاح الملوث أحيانا بالحسابات السياسية الضيقة والأهداف المتضاربة وغير النظيفة، في أحيان كثيرة.
وفي هذا السياق، نجح نظام الأسد في إعادة تسويق صورته، ولقي من يدعمه إقليميا ودوليا.
ثانيا: لم تنجح المعارضة السورية في توحيد صفوفها وتقديم نفسها في صورة البديل المقنع أمام السوريين وأمام العالم.
اشتدت المنافسة بين التنظيمات والشخصيات والزعامات المفترضة، وتضاربت المصالح وتعددت الارتباطات الخارجية، وتغيرت الصيغ التنظيمية، وهو ما أفقد القوى السياسية المناهضة لنظام الأسد حضورها الشعبي في الداخل، وجعلها محل استقطاب وتجاذب على الصعيدين الاقليمي والدولي.
ثالثا: أحدث دخول تنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش إرباكا واسعا على المشهد السوري، وكان من نتائج ذلك إثارة المخاوف في صفوف السوريين، وهمش المعارضة الديمقراطية وغذى تقسيماتها، كما أنه وفر فرصة هامة للنظام الذي استغل على ذلك، ولا يزال لتقديم نفسه جهة شرعية تقاوم الإرهاب، وتعمل على حماية سوريا من التقسيم.
ولا شك في أن وجود هذه التنظيمات المسلحة التي تتكون من أفراد متعددي الجنسيات، يعتقدون بأنهم جاؤوا ليحكموا بلدا له شعب وتاريخ، أحدث تشويشا إضافيا وتشويها للمشهد السوري برمته، وزاد في خلط أوراق المعارضة وفي إرباكها.
في ظل هذه المعطيات والعوامل، وجد السوريون أنفسهم في متاهة يصعب الخروج منها رغم حقهم المشروع في إقامة نظام ديمقراطي يحررهم من كابوس الدكتاتورية والطائفية.
لكن بين ما ثاروا من أجله وبين ما آل إليه حالهم المسافة شاسعة، والحلم انقلب في النهاية إلى كابوس رهيب.