أطلق المحامي المصري ورئيس منتدى الوسطية للفكر والثقافة، منتصر الزيات، رؤية شاملة للمصالحة الوطنية في مصر من أجل محاولة إنهاء الأزمة القائمة عقب انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013.
وتتطرق رؤية "الزيات" لتوصيف وتشخص الأزمة والوضع الراهن، وأسبابهما، وتوضح الإشكاليات والعوائق التي تحول دون المصالحة، وتطرح إجراءات محددة لكيفية إتمام المصالحة والوصول إليها، من خلال خطوات تمهيدية، وعبر تحقيق العدالة الانتقالية (تم عرضها بشكل تفصيلي)، وتقدم تجارب المصالحة حول العالم، والتي تعتبرها بمثابة دروس للحالة المصرية.
ودعا "الزيات" إلى تحديد أطراف المصالحة، وعدم استبعاد أي طرف مهما كان غير مؤثر، والتعرف على مدى استعدادهم جميعا للدخول في عملية مصالحة جادة، وتهيئة الأجواء لمساندة عملية المصالحة (إعلاميا- ونخبويا- وفكريا)، وبحث أسباب الصراع بعمق، ووضع تصور واضح للقضايا محل الخلاف في إطار وطني، مع وضع تصور شامل لمعالجة تلك القضايا، ووضع جدول زمني لمراحل وإجراءات المصالحة.
ورأى أن آلية المصالحة تكون من خلال إنشاء إطار مؤسسي (وزارة - مفوضية – لجنة عليا- مجلس أعلى) له استراتيجية وطنية شاملة وقوانين حديثة في معالجة آليات العدالة الانتقالية واجبة التطبيق وتحدد الجهات القائمة عليها.
وفيما يلي نص الرؤية التي يطرحها "الزيات" وتنفرد "عربي 21" بنشرها كاملة:
تمهيد
إن صيانة الأوطان والمجتمعات والنفوس من المصالح العظمى والمقاصد السامية التي أقرتها وأجمعت على رعايتها شرائع السماء وقوانين الأرض وأنها تُقدم - عند التعارض- مع المصالح الفردية أو الرمزية، وهي أشد حرمة عند الله وعند الناس من المصالح السياسية أو الحزبية الضيقة التي قد تدرك لاحقا، ولو بعد حين، لاسيما بعد استيعاب التجارب واستدراك الأخطاء، مما يصب ذلك كله في مصلحة مصر الغالية.
إن مناط الوقائع والأحداث قد يفرض على الجميع حلولا مستكرهة وقرارات مرجوحة قد لا تكون كاملة في صورتها ولا راجحة في ذاتها، ولكنها مناسبة للحال وموائمة للظرف من حيث تعلق مصالح الشعوب والأمم وحقن الدماء بها لا سيما إذا ما قيست بميزان دفع المفاسد وجلب المصالح، وحينئذ يكون النزول عليها واجبا شرعيا يتعين على الجميع قبوله لتعلق المصلحة بها حتى وإن لم ترض أصحابها.
ولا يمكن لأحد أن يدعي أو يتوهم أن فشل تجربة منسوبة للإسلام أو قصورها عن تحقيق نجاح متوقع يعني بالضرورة نه أي المطاف أو جفافا للصحف أو إقصاء للإسلام أو محاربة له، فإن الإسلام هو دين الله الخالد وهو أعظم من أن يختصر في مشروع سياسي أو جهد بشري يجري عليه ما يجري على الطبيعة البشرية من قصور أو نقصان أو ضعف أو يدعي فصيل امتلاكه، فالمشروع الإسلامي هو مشروع حضاري يتشارك فيه كافة أبناء الجماعة الوطنية المصرية وليس مقتصرا على فئة بعينها.
نحذر من خطورة شيوع ثقافة (الغالب والمغلوب) في الحالة المصرية الآنية، لأنها تشق عصا الصف الوطني وتقسمه إلى فريقين متصارعين كل يبحث عن مكسبه ويبتعد عن خسارته مع انزواء مصلحة الوطن وتواريها خلف المصالح الضيقة للفريقين، كما يؤكد على خطورة إشعار الطرف الآخر بالانكسار والهزيمة، وهو ما قد يؤدي به إلى شعور الهزيمة القاتل الذي يبعده عن فكر الترشيد واستيعاب الأخطاء، ويعزز لديه روح الانتقام والخصومة، ويحول بينه وبين المشاركة الفاعلة والحضور المؤثر.
نؤكد على أن نجاح أي تجربة إنسانية في الحكم وفي غيرها أو قصورها يجري وفق سنن الله الغلابة التي تمضي على قواعد ثابتة وطرق قويمة قائمة على ميزان العدل لا تعرف مجاملة المسلم ولا مجافاة الفاسق.. من سار عليها نجح وفاز ومن تنكبها انتكس وخسر مهما كانت علاقته بربه، وإن توفيق الله تعالى يصاحب عبده بعد استجلاء أسباب النجاح الكونية، فإن الله تعالى يجبر القصور ولا يجبر التقصير.
نهيب بالأطياف الفكرية والسياسية كافة وعلى اختلاف تبايناتها تساميها عن التشفي وترفعها عن التعيير وضرورة استشراف المستقبل بروح الأخوة الوطنية والتعايش السلمي بعيدا عن روح العداء والإقصاء، فأن مصرنا العزيزة بحاجة ماسة إلى جهود أبنائها كافة.
إن المصالحة الوطنية تمثل الآن فقه اللحظة وواجب الوقت، وأنها تستوجب العمل الجاد وبنفس واحد لدفع عجلة الحياة الاقتصادية، وإيصال الخدمات، وتوفير فرص العمل، والنهوض بالمستوى التعليمي والتربوي، وإشاعة روح المحبة والتسامح بين مختلف الأطراف، وإن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون وجود نية صادقة للمصالحة مع وجود الثقة بين الأطراف في تنفيذ ما يتفقون عليه.
مصالحة أم تفاوض؟
المصالحة الوطنية مصطلح سياسي متعدد الدلالات والمضامين ولا يمكن وضع تصور واحد لكل تفاصيله، إذ لكل بلد طبقته نموذجها الخاص المتضمن خصوصيتها الوطنية والثقافية، بل وخصوصية طبيعة الصراع ذاته الذي وضعت المصالحة الوطنية حلا له أو طيا لصفحته، وغ أي المصالحة هي ترسيخ علاقة قائمة علي التسامح والتغافر والعدل بين الأطراف السياسية والمجتمعية بهدف طي صفحة الماضي بما فيها من مظالم ومحن وتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة.
وإذا تحدثنا عن الحالة المصرية فإننا نجد لها إشكاليات ذات مستويات مختلفة.
إشكاليات إجرائية:
-عدم توقف العنف
فيجب قبل الحديث عن أي مبادرة من توقف العنف وأسبابه سواء من خروج المظاهرات أو من طرف الجهات الأمنية التي تتعامل معها.
- وصف جماعة الإخوان المسلمين بالإرهابية
بغض النظر عن صحة أو قانونية هذا الوصف، فإنه يعد من الإشكاليات الإجرائية الكبرى التي تعرقل المبادرة، لأنه ليس من المعقول إجراء مصالحة مع جماعة موصوفة بالإرهابية، ويجب البحث هنا عن مخرج لهذا المأزق الذي يقابل المصالحة، فكيف يتم التعامل معه.. هل بإلغائه وعلى أي أساس؟
إشكاليات جوهرية:
- تعدد المراحل الانتقالية وأطراف المصالحة الوطنية
في الحالة المصرية تركيب وتشابك ربما لم يحدث في أي تجربة للمصالحة الوطنية، ومن ثم ترتب على ذلك تعدد صور ومستويات هذه المصالحة، فهناك مثلا:
• مصالحة بين النظام الأسبق (مبارك) والمعارضين له قبل 25 يناير.
• مصالحة بين الأجهزة الأمنية لتلك الحقبة وبين ضحايا الانتهاكات الجسيمة.
• مصالحة بين المجلس العسكري وتيار الشباب الثوري (محمد محمود – مجلس الوزراء – ماسيبرو- وزارة الدفاع).
• مصالحة بين نظام الإخوان والتيار الثوري.
• مصالحة بين نظام ما بعد 30 حزيران/ يونيو والإخوان.
• مصالحة النزاعات الطائفية.
• مصالحة كبرى تزيل الانقسام المجتمعي وتعمل على تعزيز التعايش السلمي بين أطيافه.
- الاصطفافات الأيدولوجية
ذلك أن الانقسام الحاد الواقع في الحالة المصرية راجع بالأساس إلى حالة استقطاب أيديولوجي وفكري حاد بين الجماعات الإسلامية وبين غيرها من التيارات المدنية أو الثورية صحيح أن الثورة في أيامها الأولى استطاعت من خلال الاندفاع الثوري الجارف ألا تجعل الخطاب الاستقطابي بارزا غير أن الأمر لم يدم طويلا، فبدأت دعوات الفرز الفكري والأيديولوجي تبرز في خطاب التيار الإسلامي قبل غيره، ولعل أجلى صور هذا الخطاب ما كان على منصة رابعة العدوية والنهضة وما بعدها، والتي انتقل بالخلاف الواقع من كونه سياسيا إلى ديني يستهدف الوجود الإسلامي في الحكم.
هذا النمط من الخطاب أو الرؤية أورث استقطابا حادا باعد بين الأطراف الثورية التي كانت على قلب رجل واحد في ميدان التحرير، ولا شك أن هذا الاصطفاف سيصعب وبصورة كبيرة من فرص المصالحة الوطنية، والتي لابد لها ولكي تنجح من إيجاد حلولا ليست جذرية، وإنما حاسمة لهذا الاستقطاب الفكري.
- رغبة كل فريق في تحقيق المكاسب الكاملة (المغالبة)
فالاتجاه الإسلامي حسم موقفه منذ أيام رابعة أرادها حزمة واحدة متمثلة في الشرعية الدستورية (عودة مرسي – عود الدستور- عودة مجلس الشورى)، كما أرادها طرف السلطة (لا عودة إلى ما قبل 3 تموز/ يوليو 2013) و (لا رجوع عن خارطة الطريق)، فأدى ذلك إلى تحطم كل مبادرات التهدئة والمصالحة التي قامت بها كثير من الأطراف ليس هذا فحسب، بل أدى ذلك إلى تصعيد كل طرف نحو الآخر بكل ما يملك دون أن يجعل الباب مواربا مع الآخر، ومن ثم فإن الصعوبة هنا تمكن في أن نجاح أي مصالحة وطنية قائم بالأساس على أن التنازل عن المطالب بقدر ارتكاب أو الوقوع في الأخطاء، وطالما أن كل فريق لم يصل بعد إلى هذه الدرجة من المراجعة الذاتية فلن يصلح أي جهد للمصالحة مهما كان جادا.
- شيطنة الطرف الآخر
خطاب الشيطنة لا يبنى عليه بأي حال توجه للمصالحة، وهذا خطأ ارتكبته جميع الأطراف، وكأن كل طرف لم يدر بخلده للحظة أن الطرف الآخر من مواطني مصر وله حق العيش فيها مهما كانت الخلافات والانشقاقات، فطرف الإخوان أو التحالف الوطني شيطن الآخر من خلال خطابه الأيديولوجي الإقصائي ووسمه بالكفر ومحاربة الدين والوقوف في وجه المشروع الإسلامي وطرف السلطة شيطن الإخوان والتحالف ووصمهم بالإرهابيين والعملاء والمتآمرين مع قوى إقليمية لهدم مصر ولا شك أن هذا الخطاب سيكون له تأثير سلبي على جهود المصالحة.
منهجية المصالحة
وللمصالحة منهجية يجب سلوكها لتحقيق أهدافها وهي:
1. تحديد أطراف المصالحة وعدم استبعاد أي طرف مهما كان غير مؤثر.
2. التعرف على مدى استعداد جميع الأطراف للدخول في عملية مصالحة جادة.
وتلك نقطة غ أي في الأهمية فإن الحديث عن المصالحة دون التعرف على رغبة الأطراف في دخول عملية مصالحة هو نوع من العبث وضياع الجهود دون أدنى فائدة، بل لا نبعد القول إذا قلنا إنه لا ينبغي لأي طرف يريد أن يتوسط في إجراء مصالحة أن يشرع فيها قبل أن يتعرف على رغبة الأطراف في مدى جدية التسامح والتغافر.
3. تهيئة الأجواء لمساندة عملية المصالحة (إعلاميا- ونخبويا- وفكريا)، وذلك يقتضي إبعاد أصحاب الأجندات الأيديولوجية أو الصراعات الطائفية أو الناشطين من استغلال الأبواق الإعلامية لخدمة أهدافهم، ويجب أن يكون الخطاب وطنيا مهنيا وليس إقصائيا انتقائيا.
4. بحث أسباب الصراع بعمق ووضع تصور واضح للقضايا محل الخلاف في إطار وطني.
5. وضع تصور شامل لمعالجة تلك القضايا مع تحديد الأهداف الاستراتيجية اللازم تحقيقها لبلوغ المصالحة دستوريا وقانونيا واجتماعيا.
6. وضع جدول زمني لمراحل وإجراءات المصالحة.
الإجراءات الأولية
أولا: عقد لقاءات خاصة بعيدا عن وسائل الإعلام مع أطراف الصراع بهدف استكشاف مدى مرونة كل فريق نحو الآخر، وتقريب وجهات النظر المختلفة، والبحث عن الحلول المقبولة في معالجة الملفات والقضايا المختلف حولها.
ثانيا: تحديد واختيار فريق الخبراء من الفقهاء الدستوريين والقانونيين والساسة بهدف صياغة مشروع مصالحة وطنية مصرية يشتمل على اتفاق المصالحة الشاملة، وقانون المصالحة وصياغة مواده، واختيار آلية المصالحة.
ثالثا: التهيئة العامة لمشروع المصالحة، وهو الأمر الذي يتمثل في غياب الخطاب الإقصائي المعادي من كل طرف نحو الآخر، وعقد لقاءات مفتوحة لإجراء حوار مجتمعي بشأن المصالحة.
مضمون المصالحة
1. دستور المصالحة هو المسامحة والتغافر، وإرجاع الحقوق، ومعاقبة المخطئ، وإعلاء المصلحة الوطنية وليس الهروب من العقاب أو التستر على المجرمين.
2. الاتفاق على ثوابت وطنية جامعة تلتقي حولها جميع الأطراف.
3. الشفافية في تقديم مصلحة الوطن على غيره من المصالح الحزبية أو الأيديولوجية والابتعاد عن المكابرة وفكرة المغالبة والتخوين والتشفي.
4. إجراء المصالحة في مناخ من الحيادية والعدل وسيادة القانون.
5. كشف المظالم وبيان الحقائق كاملة.
6. التوصل إلى حل عادل في حقوق الضحايا والمصابين.
7. وجود جهة محايدة ومستقلة تعني بتقييم نتائج المصالحة في مراحلها المختلفة.
8. اتباع إطار مؤسسي شامل للمصالحة.
آلية المصالحة
تكوين وإنشاء إطار مؤسسي (وزارة - مفوضية – لجنة عليا- مجلس أعلى) له استراتيجية وطنية شاملة وقوانين حديثة في معالجة آليات العدالة الانتقالية واجبة التطبيق وتحدد الجهات القائمة عليها.
عوائق المصالحة
1. انعدام رغبة الطرفين أو أحدهما في المصالحة.
2. عدم توقف أعمال العنف لأنه لا يمكن المصالحة إذا لم يتم وقف فوري لأعمال العنف وإراقة الدماء.
3. عدم التحديد الدقيق لأطرافها أو دعوة أطراف ليست معنية بالمصالحة.
4. عدم استقلالية قرار الطرفين أو أحدهما بشأن المصالحة وارتباطه بطرف خارجي أو معادلة إقليمية.
مقتضيات المصالحة
الكشف عن حقيقة الوقائع والأحداث الدموية التي راح ضحيتها الآلاف، وهذا يقتضي بالأساس التعرف على (الطرف الثالث) أو (اللهو الخفي) والبحث عن حقيقة أحداث ما زالت إلى الآن غامضة أو أسرارا عظمى كأطراف حوادث موقعة الجمل وماسيبرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها بأدلة دامغة وواضحة.
مفهوم العدالة الانتقالية
هناك العديد من الدراسات الغربية التي عالجت الجوانب التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تميز المراحل الانتقالية، إلا أن القليل منها سعى إلى تأصيل الجوانب القانونية لمفهوم العدالة الانتقالية، وهو الأمر الذي نحاول الاضطلاع به في هذه الرؤية، لكي نعين القارئ وصانعي القرار على استشراف أفضل الآليات القانونية القابلة للتطبيق على الوضع في مصر، مع عدم إغفال السياق السياسي والاجتماعي اللازم لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية.
ونظرا لأن مفهوم العدالة الانتقالية مفهوم نسبي يتغير بتغير الزمان والمكان، وبالتالي يجب عدم النظر إلى العدالة الانتقالية على أنها نوع خاص من العدالة. ونسبية مفهوم العدالة الانتقالية يمكن أن تتأثر بدرجة القمع والاستبداد التي اتصف بها النظام السابق، أو ما ارتكبه مسؤولوه من انتهاكات، وهو الأمر الذي يؤثر بطبيعة الحال في نوعية الآليات وطبيعة الإجراءات التي سوف يتم التعويل عليها لتطبيق العدالة الانتقالية. فكلما زادت درجة القمع والاستبداد علي النحو الذي اتصف به النظام العنصري في جنوب إفريقيا، أو النظام النازي الألماني، زادت الحاجة إلي آليات تتمتع بالشدة، سواء تمثل ذلك في آليات التطهير، أو المحاسبة الجنائية والقصاص. أما إذا كان تخلي النظام عن السلطة قد تم بطريقة سلمية، فيمكن اللجوء إلى آليات أقل وطأة مثل الإقرار بالحقيقة، أو الإلزام بالتعويض، أو الاعتذار .
من هنا، يمكن تعريف العدالة الانتقالية تطبيقا علي الوضع في مصر بأنها:
"مجموعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية، يتم الاضطلاع بها خلال مرحلة ما للتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان، وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة التي وقعت في ظل العقود السابقة بدءا من تولي "مبارك" السلطة، وخلال فترة تغيير هذا النظام، وهي ترمي أساسا إلى القصاص العادل للضحايا، وجبر الأضرار التي لحقت بهم وذويهم، وإصلاح مؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية بهدف الانتقال بالمجتمع إلى صميم مرحلة الديمقراطية، ومنع تكرار ما حدث من انتهاكات وتجاوزات".
العدالة الانتقالية والمنطقة العربية
على الرغم من أن العديد من الدول العربية قد شهدت تغيرات جذرية في نظمها الحاكمة، فإنها لم تشهد تجارب مكتملة لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية. وفي المملكة المغربية - مثلا - تمخضت التجربة عن إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة عام 2004 للتصدي لإرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، خاصة الاعتقال التعسفي، والتعذيب، والاختفاء القسري للأشخاص، خلال المدة من عام 1956 إلي عام 1999، والتي توفر مثالا مبسطا، وإن لم يكن كاملا، لتطبيق بعض آليات العدالة الانتقالية. وهي تشكل أولى المحاولات الرامية إلى معالجة
انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في فترة ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية .
كما يمكن الإشارة أيضا إلى عملية التطهير المؤسسي، والعزل السياسي، والمحاكمات الجنائية التي تمت بالعراق عقب إزاحة النظام البعثي بعد احتلال العراق عام 2003. وأهم ما ميز تلك المرحلة محاكمة صدام حسين وأعضاء نظامه أمام المحكمة العليا العراقية، التي تم رصدها من منظمات حقوق الإنسان وشابها قصور شديد فيما يتعلق باستقلال المحكمة وحياديتها. فضلا عن أن المرحلة الانتقالية بها اتسمت بتطبيق آليات العدالة العقابية دون الاهتمام بالعدالة التصالحية، على الرغم من إنشاء بعض الكيانات التي يمكن أن تقوم بهذه المهمة.
وبذلك، يكون التطبيق المجتزأ لمفهوم العدالة الانتقالية الذي تزامن مع تهميش بعض أطياف المجتمع، في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني والطائفية الدينية، وغياب مفهوم سيادة القانون، لم يمكن العراق من بلوغ المصالحة الحقيقية، ومن ثم التطبيق الأمثل لمفهوم العدالة الانتقالية.
وبالنسبة لدول الربيع العربي الأخرى، وتحديدا تونس، وليبيا، واليمن، فهناك بعض الجهود التي تُبذل لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، تدعمها في بعض الأحيان دول أو منظمات دولية، تعمل على نشر الوعي بهذا المفهوم، وحث النظم الجديدة على الأخذ بآلياته. وقد أسفرت تلك الجهود عن إعداد مشروعات لقوانين العدالة الانتقالية في تونس واليمن. بينما أصدر المجلس الوطني الانتقالي بليبيا بالفعل القانون رقم 17 لسنة 2012 بشأن إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.
وتعد تونس من أكثر الدول العربية تقدما بصفة عامة في إجراءات العدالة الانتقالية. فقد أسندت ملف حقوق الإنسان إلى وزارة مختصة، هي "وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية". وتضمن برنامج عمل الحكومة المؤقتة بعد الثورة موضوع "العدالة الانتقالية" كإحدى الأولويات الأربع في عملها، كما أنشأت آلية خاصة لتعويض الضحايا وتأهيلهم، هي "صندوق شهداء وجرحي الثورة وضحايا الاستبداد".
ووفقا للمرسوم رقم 97 لسنة 2011، تم تشكيل لجنة شهداء الثورة ومصابيها، تضم في عضويتها ممثلين عن المجتمع المدني، ورئاسة الحكومة، والمجلس الوطني التأسيسي، وتم إنشاء لجنة فنية للإشراف على الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، وكل ذلك يتزامن مع ما يتم إجراؤه من محاكمات جنائية لرموز النظام السابق. ومن ثم، يمكن النظر إلي التجربة التونسية كأفضل المحاولات الجارية حاليا في المنطقة العربية لتطبيق مفهوم العدالة الانتقالية.
وفي أرض الكنانة، وعلى الرغم من أن القوى الثورية والحكومات المتعاقبة التي أدارت شؤون البلاد بعد الثورة قد اتخذت بعض الإجراءات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في الوطن، فإنها لم تستوف كافة المعايير المتطلبة لتحقيق العدالة الانتقالية الناجزة. ومن أهم الإجراءات التي تم تبنيها في مصر، والتي تتوافق مع مفهوم العدالة الانتقالية، تشكيل عدة لجان لتقصي الحقائق حول العديد من الأحداث المهمة والجسام التي اتسمت بالعنف في أنحاء عديدة في مصر إبان الثورة وعقبها، وكذا إنشاء المجلس القومي لرع أي أسر الشهداء ومصابي الثورة .
أهداف ومكونات العدالة الانتقالية
ينطوي مفهوم العدالة الانتقالية على حزمة من التدابير القضائية وغير القضائية اللازم التعويل عليها لتحقيق أهدافه. ووفقا للتجارب السابقة في العديد من الدول، فإن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم أصلا علي ست دعائم رئيسة ومترابطة تشكل آليات وأهدافا ستة لها في الوقت ذاته، هي "معرفة الحقيقة"، و"المحاسبة والقصاص"، و"تعويض الضحايا وجبر أضرارهم"، و"التطهير"، و"الإصلاح المؤسسي"، وصولا إلى "المصالحة"، وإن نجاح الأهداف الخمسة الأولى من شأنه أن يمهد الطريق نحو تحقيق الهدف السادس والأسمى، وهو المصالحة، بما يعجل بإرساء السلام الاجتماعي. وفيما يلي مزيد من التفصيل لأهداف ومكونات مفهوم العدالة
الانتقالية، وآليات تطبيقه .
1- معرفة الحقيقة:
إن آلية معرفة الحقيقة تعتمد على طبيعة الانتهاكات والتجاوزات التي حدثت في الماضي. وبالتالي، فإنه سوف يكون من المهم بالنسبة للوضع في مصر كشف حقيقة ما ضرب البلاد من فساد، في ظل نظام ما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، مع توضيح أسبابه، وأبعاده وكيفية مواجهته، وآليات استرداد عائداته، وعدم الاقتصار فقط على تقصي حقيقة ما حدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. والميزة التي توفرها آلية معرفة الحقيقة أنها تسهم في فضح انتهاكات وتجاوزات الماضي، ومن ثم في مواجهتها، أو الصفح عنها، بما يحقق قدرا من الرضاء لدى المواطن العادي، يسهم في بلوغ المصالحة الوطنية، على النحو الذي حدث في تجربة جنوب إفريقيا.
2- المحاسبة والقصاص:
من أهم التدابير القضائية التي يمكن التعويل عليها لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية في مجال المحاسبة، إجراء محاكمات جنائية للمسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، وغيرها من جرائم أخرى ضد الشعب والوطن، عن طريق محاكم وطنية .
3- التعويض وجبر الضرر:
من أهم مرتكزات مفهوم العدالة الانتقالية تعويض الضحايا، وجبر ما لحق بهم من أضرار، وإعادة تأهيلهم، وتخليد ذكراهم.
4- التطهير:
من الممكن أن تقترن المرحلة الانتقالية بتطهير مؤسسات الدولة، وإقصاء المسؤولين ممن أفسدوا الحياة السياسية. وتستلزم هذه الآلية مراجعة أعمال المسؤولين السابقين بغرض التيقن مما صدر عنهم من تجاوزات وانتهاكات، وإقامة الدليل عليها، مع التأكد من أهلية المسؤولين الحاليين لتقلد مناصبهم العامة. ومن أهم أغراض عملية التطهير الحد من النفوذ السياسي والاقتصادي للمسؤولين السابقين ممن أفسدوا وأجرموا في حق البلد لمنعهم من إعاقة مسيرة الإصلاح، فضلا عن إقصاء الضالعين في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من مؤسسات الدولة، خاصة جهاز الشرطة، إعمالا لمبدأ المحاسبة، ولمنع ارتكاب مثل تلك الانتهاكات مستقبلا.
والإجراءات المتقدمة، بالنظر إلى طبيعتها الاستثنائية، يتم تبنيها عادة بقوانين العدالة الانتقالية، التي تضع لها ضوابط ومعايير محددة، بدلا من أن توصم تلك الإجراءات ذاتها بالتحكم والاستبداد، واضعين في الحسبان أنه من المستحسن تطبيق إجراءات العزل بكافة صوره وأشكاله في أضيق الحدود، وبدون تمييز وفقط ضد من يثبت ضدهم الضلوع في إفساد الحياة السياسية، وإساءة استعمال السلطة على نحو فج. أما غيرهم من المفسدين، فيتم تطبيق القواعد القانونية العادية بشأنهم.
5- الإصلاح المؤسسي:
من أهم غايات العدالة الانتقالية إصلاح مؤسسات الدولة لضمان منع تكرار ما حدث من انتهاكات عن طريق تلك المؤسسات، أو عن طريق القائمين عليها، بما يتضمنه ذلك من إعادة هيكلة الأجهزة والمؤسسات المشتبه بارتكاب منتمين لها انتهاكات لحقوق الإنسان، أو إساءة استعمال السلطة، وذلك لإزالة الأسباب والعناصر التي أدت إلى تلك الانتهاكات والممارسات التعسفية، أو القمعية، بما يضمن تعديل أنماط ممارسات السلطة نحو الشفافية، والنزاهة، ومراعاة حقوق الإنسان.
لذلك، يجب أن تتسع إجراءات العدالة الانتقالية لكي تتضمن إصلاح مؤسسات الدولة، وإرساء مبادئ سيادة القانون التي يجب أن تحكم عمل تلك المؤسسات. ومن أهم المؤسسات التي يشملها الإصلاح المؤسسي، خلال المرحلة الانتقالية، الأجهزة الأمنية التي يجب أن يعاد تقييمها، ومراجعة أعمال القائمين عليها، والعاملين بها، فضلا عن مراجعة التشريعات واللوائح والقرارات المنظمة لعملها، وتعديلها، وإعادة هيكلة المؤسسة، إذا لزم الأمر، مع إيلاء أهمية قصوى للتدريب، ورفع وعي العاملين بها بمبادئ حقوق الإنسان.
وكيفية إعادة هيكلة أو إصلاح جهاز الشرطة، وقدر إعادة الهيكلة أو الإصلاح المطلوبين - سواء كان جزئيا أو شاملا - تضطلع بها عادة القوى والحكومات الثورية خلال المراحل الانتقالية. وقد تستعين تلك القوى والحكومات بخبرات المؤسسات الدولية والمنظمات العاملة في هذا المجال، خاصة منظمة الأمم المتحدة، من خلال أجهزتها المتخصصة التي لديها خبرات متراكمة اكتسبتها من خلال عملها في العديد من الدول.
6- المصالحة:
الحق أن العدالة الانتقالية ذات صلة وثيقة بالمصالحة الوطنية، وأن المصالحة كأحد مكونات منظومة العدالة الانتقالية تشكل في حد ذاتها أهم أهدافها. إذ إنه من المستقر أن المصالحة الوطنية من أهم مفردات أي تسوية سياسية، وإن عدم تحقيقها قد يفشل هذه التسوية برمتها.
وهناك العديد من الدول التي ركزت في المراحل الانتقالية علي آلية المصالحة لإعادة تحقيق السلام الاجتماعي في المجتمع، ولعل تجربة جنوب إفريقيا توفر أفضل الممارسات في هذا الشأن، فأهم ما يميز مرحلة العدالة الانتقالية في جنوب إفريقيا أنها اعتمدت على آلية خاصة لبلوغ المصالحة الوطنية، تقوم أساسا على إقرار المسؤول بما ارتكبه من انتهاكات وتجاوزات أمام هيئة معرفة الحقيقة كشرط للحصول على العفو، بلوغا للمصالحة الوطنية، بغرض تحقيق العدالة التصالحية، وليس العدالة العقابية، أو الانتقامية. بل إن بعض نظم العدالة الانتقالية قد عولت على الاعتذار كإحدى آليات العدالة الانتقالية.
وتحاول العديد من دول الربيع العربي - مثل اليمن - أن تجتاز مرحلة ما بعد الثورات العربية بتطبيق مفهوم العدالة التصالحية، وهو أمر محمود، إذا ارتضت بهذا التوجه كافة أطياف المجتمع، خاصة التي عانت منها التهميش، أو كانت محلا للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
معايير تطبيق العدالة الانتقالية
إن تحقيق أهداف العدالة الانتقالية لا يمكن أن يتم بصفة تحكمية أو عشوائية، بل من خلال اتباع معايير محددة وواضحة تضفي على آليات وإجراءات العدالة الانتقالية المصداقية والمشروعية، وهو أمر يستلزم اتباع إجراءات وآليات تتفق مع أعلى المعايير الدولية السائدة. ومن أهم المعايير التي يجب مراعاتها عند الاضطلاع بآليات وإجراءات العدالة الانتقالية:
1- الالتزام بالقواعد الدولية للعدالة والإنصاف:
عادة ما تعاني الدول التي تمر بمرحلة انتقالية حالة سيولة قانونية، خاصة بعد إلغاء أو سقوط دستور النظام القديم، مما يستلزم الأخذ بأعلى المعايير الدولية وتطبيقها، خاصة تلك المتعلقة بالعدالة والإنصاف والمشروعية، لبناء دولة القانون.
ومفهوم العدالة الانتقالية يعد أحد فروع القانون الدولي، وبالتالي فهو يجد أساسه ومصدره في القواعد الدولية الراسخة - العرفية منها والتعاهدية - المستمدة من القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الجنائي الدولي. ويترتب على ما سلف أنه يجب أن يكون القائمون على تطبيق آليات وإجراءات العدالة الانتقالية على علم ودر أي بمبادئ القانون الدولي، والقواعد الخاصة بالمجالات السابق سردها، لضمان تطبيق تلك الآليات والإجراءات، وفقا لأعلى المعايير الدولية السائدة.
2- مراعاة الخصوصيات الوطنية:
إن تطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية في مجتمع معين يستلزم دوما مراعاة الخصوصيات الوطنية، والثقافة، والقيم السائدة، لأن ما يصلح للتطبيق في دولة بعينها قد لا يصلح للتطبيق في دولة أخرى، وبالتالي لا يمكن نقل النماذج والتجارب التي تم تطبيقها في دولة ما لتطبيقها في دولة أخرى نقلا حرفيا. ولما كان الدين هو أحد المكونات الأساسية للشخصية المصرية، فلابد أن تتوخى الآليات والإجراءات، التي يتم تبنيها خلال المرحلة الانتقالية، القيم الدينية السائدة في المجتمع المصري، فجوهر الدين يوحد الناس ولا يفرقهم، وإنما تفرقهم التيارات والأهواء السياسية.
ومن المهم الإشارة، في هذا السياق، إلي أن أحكام الشريعة الإسلامية، باعتبارها ركيزة أساسية للقيم السائدة في المجتمع المصري، توفر أفضل الممارسات التي يمكن الاحتذاء بها في مجال العدالة الانتقالية، سواء في مجال المحاسبة، أو تطهير أجهزة الدولة من الفساد والمفسدين، أو القصاص، أو تعويض الضحايا، وفقا لمبدأ "لا يبطل دم في الإسلام"، والعفو العام، والعفو في حالة رضاء أولياء الدم على النحو الوارد في نصوص القرآن والسنة، والصلح والمصالحة، وفقا للفكرة الإسلامية الأصيلة المتمثلة في "إصلاح ذات البين".
3- مراعاة الوضع السياسي:
تعتمد إجراءات العدالة الانتقالية إلى حد كبير على النظام السياسي الحاكم في المرحلة الانتقالية.
والأطراف الفاعلة صاحبة القرار السياسي قد تكون من معارضي النظام البائد، كما حدث في قبرص، والبرتغال عام 1974، والأرجنتين عام 1983، وليتوانيا عام 1991، وأوغندا عام 1986، أو من النخبة كما حدث في إسبانيا عام 1975، وتشيلي عام 1989، وروسيا عام 1991، وبلغاريا عام 1992. بل إن قيادة المرحلة الانتقالية في بعض الأحيان قد تكون لقوى أجنبية في حالة انهيار، أو تداع، أو عجز مؤسسات الدولة عن الاضطلاع بمهام المرحلة الانتقالية، كما حدث في بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا عام 1944، والدنمارك، وألمانيا، واليابان عام 1945، وهو الأمر غير المنطبق علي الوضع في دول الربيع العربي بصفة عامة، وفي مصر بصفة خاصة. والوضع في مصر يشكل خليطا من الأطراف الفاعلة "التيارات الإسلامية"، و"المعارضة"، و"النخبة"، و"شباب الثورة".
وتتسم مهمة التوفيق بين ما يتم اختياره من آليات العدالة الانتقالية والأوضاع السياسية القائمة بالحساسية البالغة، لأنها تتم عادة في أجواء سياسية هشة غير مستقرة، ولذلك يجب أن يراعي من بيدهم زمام الأمور ألا يتم اختيار آليات تزيد الأمر سوءا علي الساحة السياسية، ولذلك يجب التشاور مع كافة فئات المجتمع المعنية، خاصة الضحايا منهم، في مرحلة اختيار وتنظيم آليات وإجراءات العدالة الانتقالية .
4- التركيز على مصالح وحقوق الضحايا:
إن عدم جبر أضرار الضحايا ومن أصيب بضرر من ذويهم أو المحيطين بهم قد يؤدي إلى المزيد من التوتر والاحتقان في المجتمع؛ ذلك أن الضحايا المقصودين بآليات العدالة الانتقالية ليسوا هم فقط المجني عليهم ممن قتلوا وأصيبوا خلال تلك الأحداث، بل إن الأمر يمتد لأسرهم وأهاليهم ممن فقدوا أبناءهم وذويهم.
ويتعين الاستماع لمشاغل وآراء أولئك الأشخاص في كافة المراحل، خاصة خلال الدعوى الجنائية؛ لذلك، يتعين على المشرع الوطني التدخل لوضع آليات قانونية ناجزة؛ لتعويض ضحايا الجرائم الجسيمة، حتى لا يشكل ذلك ذريعة أخرى للاحتجاجات والاشتباكات.
5- إصلاح وتطوير منظومة العدالة الجنائية:
إن التقدم المطرد في فقه القانون الجنائي الدولي يجب أن يواكبه تطور في معالجة التشريعات الداخلية للقواعد الجنائية الدولية، لما في ذلك من عظيم الأثر على إثراء التشريعات الوطنية على نحو يمكنها من التعامل مع قواعد القانون الجنائي الدولي، بما يمكن القضاء
المصري من التصدي للجسيم من الجرائم كالجرائم ضد الإنسانية.
كما أنه يجب على المشرع تطوير منظومة العدالة الجنائية، وفقا لإستراتيجية وطنية تضمن تحديثها، وفقا لأعلى المعايير الدولية السارية .
6- دعم السلطة القضائية وضمان استقلال القضاء:
لكي تحقق العدالة الانتقالية أهدافها، يجب الاضطلاع بها عن طريق قضاء مستقل ومحايد، في إطار من المشروعية وسيادة القانون، بما يعيد ثقة المجتمع في أجهزة الدولة وقدرتها علي إنفاذ القانون. إن استقلال القضاء ليس منحة من أحد أيا كان، وإنما هو ركيزة أساسية من ركائز المبادئ الدستورية العامة، والقواعد الدولية الراسخة، والقيم السائدة في المجتمع المصري، هذا إلى جانب أن استقلال القضاء يشكل أحد أسس سيادة القانون. ولما كان من أهم مظاهر استقلال القضاء ألا يتأثر القضاة في قضائهم إلا بكلمة العدل، ينطقون بها دون تدخل يزيفها، أو خوف يئدها، أو تأثير يرهقها، فقد بسطت العديد من الوثائق الدولية الحماية المقررة للسلطة القضائية.
7- ترسيخ مبادئ سيادة القانون:
إذا كان الغرض النهائي من العدالة الانتقالية هو تحقيق الاستقرار والسلام الاجتماعي، فإن هذا الغرض لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مناخ يسمح بترسيخ مبادئ سيادة القانون، والالتزام بهذه المبادئ حتما ولزوما. ولذلك، يرى البعض أنه يجب ترسيخ مفهوم سيادة القانون كدعامة أساسية في بنيان مرحلة الانتقال من الصراع إلى الاستقرار، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية. ولذلك، يمكن القول إن العدالة الانتقالية وسيادة القانون وجهان لعملة واحدة.
مفهوم سيادة القانون لا يعني فقط تطوير التشريعات، وتطبيقها علي الجميع بلا تمييز، بل يعني أيضا يطبيق قواعد الحوكمة الرشيدة التي يصبح بمقتضاها كافة الأشخاص الطبيعية والاعتبارية -بما في ذلك مؤسسات الدولة- مسؤولة أمام القانون، بحيث يتم سن القوانين التي تطبق عليهم بتوافق مجتمعي لتكون معبرة عن حاجات المجتمع، ومبجلة للحقوق الأساسية لأفراده، وتضمن حق كل مواطن في ولوج محراب العدالة بلا إرهاق أو عسر، وتطبيق القانون علي الجميع بحيادية وإنصاف، من خلال قضاء مستقل، وقضاة مستقلين، مع ضمان اتساقه مع أعلي المعايير الدولية، خاصة تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، فضلا عن وجود مؤسسات وطنية مستقلة لحقوق الإنسان، وسلطة تنفيذية محددة السلطات، وانتخابات تتسم بالنزاهة والشفافية، وقواعد تحكم سلوك الشرطة، وكافة أجهزة الأمن، في ظل إعلام محايد صادق يعبر عن حقيقة الواقع المصري.
إن المتمعن في قراءة قواعد الدين الإسلامي الحنيف سوف يتبين بلا عناء كيف أن الشريعة الإسلامية الغراء، بمصادرها المختلفة، تحوي من المبادئ ما هو كاف لتعزيز سيادة القانون في مصر .
8-احترام حقوق الإنسان:
تدور العدالة الانتقالية أساسا حول محور حقوق الإنسان، فأساس وجودها هو التصدي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومحاسبة مرتكبيها، وجبر أضرار من تعرضت حقوقهم للتعسف والضرر، واتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لمنع تكرارها. وبالتالي، فيمكن دراسة العدالة الانتقالية وتطبيقاتها من منظور حقوق الإنسان، وفقا لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ومن أهم مؤشرات دولة القانون وجود مؤسسات وطنية مستقلة لحقوق الإنسان، لذلك فيجب أن تعمل الدولة علي ضمان قيام المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر بالمهام المسندة إليه في مناخ من الاستقلال والحياد، بحيث يكون راعيا لحقوق المواطنين وداعما لثقافة حقوق الإنسان، خلال هذه المرحلة الحساسة والحرجة التي تمر بها مصر.
ويوفر الدستور المصري الجديد إطارا قانونيا جيدا لإرساء دعائم حقوق الإنسان في مصر، ودعم المؤسسات القائمة عليها، والوثائق الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة لا تدعو فقط إلى مراعاة حقوق المتهمين والضحايا، خلال الإجراءات الجنائية، التي تنتمي إلى طائفة الحقوق المدنية والسياسية، بل تدعو أيضا إلى مراعاة الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية المنصوص عليها في الوثائق الدولية السارية، حال تطبيق آليات العدالة الانتقالية.
ذلك أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي تقع أثناء الحروب والصراعات السياسية، لا ينجم عنها فقط انتهاكات ذات طابع جنائي، بل أيضا انتهاكات أخري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهناك من يرى أن تجاهل هذه الحقوق يمكن أن يؤدي إلى المزيد من التوتر والنزاع، وبالتالي يكون الاعتراف بهذه الحقوق وتفعيلها هو شرطا أساسيا لبناء وتحقيق السلام .
ويرى جانب من الفقه أن تبني سياسات التنمية، دون اتباع سياسات تعمل على حسن توزيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المواطنين، يعد أحد الأسباب المؤدية إلى تجدد العنف في البلاد التي تمر بمراحل انتقالية، ويشكل إخفاقا من الدولة، لأنه يقوض مفهوم العدالة الاجتماعية.
ومن المعلوم أن تضرر الناس من انتهاك الحقوق نفسها كان السبب الأساسي وراء تجدد أحداث العنف في المجتمع المصري، وأن ضمان استقرار المجتمع يتطلب اتباع منهج شمولي للعدالة الانتقالية، يعمل على ترسيخ الحقوق السياسية والاقتصادية، وإصلاح الهيكل الاجتماعي.
كما يعد تحقيق المساواة بين الجنسين، وحماية الفئات الضعيفة من المجتمع، خاصة النساء والأطفال، من بين مجالات حقوق الإنسان الأخرى المهمة التي يجب العناية بها أثناء تطبيق آليات العدالة الانتقالية.
9- معالجة الفرقة والانقسام بين أطياف المجتمع:
لا يمكن تحقيق أهداف العدالة الانتقالية إلا من خلال حوار مجتمعي، وتوافق وطني، مما يستلزم معالجة الفرقة والانقسام بين أطياف المجتمع، واتخاذ التدابير اللازمة للتغلب عليها، واستئصال جذورها بعيدا عن ثقافة الثأر والانتقام، وذلك حتى لا تتحول العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقامية.
وتحديد الخطوات اللازمة للانتقال بالبلاد إلى مرحلة الاستقرار والسلام الاجتماعي، والتي يمكن أن تشكل مرجعية صادقة لما يمكن تبنيه من معايير وتدابير خلال المرحلة الانتقالية. ويجب على جميع الأطراف السياسية في هذه المرحلة التمسك بتغليب المصلحة الوطنية، والنأي عن الأهواء الشخصية، وعدم السماح لأطراف أجنبية بالتدخل لدعم طرف على حساب طرف آخر من ناحية، ومن ناحية أخرى تجنب الاستقواء بالدول الأجنبية .
10-تأقيت إجراءات وآليات العدالة الانتقالية:
يتطلب مفهوم العدالة الانتقالية بطبيعته آليات وإجراءات تكون استثنائية غالبا. لذلك، يجب الاقتصار في التعويل علي تلك الآليات والإجراءات فقط خلال مرحلة الانتقال لا تتجاوزها. فمتى انتهت موجباتها، انتهى تطبيق تلك الآليات والإجراءات.
ولذلك، فإن لجان تقصي الحقائق والمصالحة التي يتم إنشاؤها خلال المراحل الانتقالية يتسم عملها بالتأقيت، أي أنها تعمل خلال مدة زمنية مؤقتة ينص عليها عادة القانون أو القرار الصادر بإنشائها.
11-اتباع إطار مؤسسي شامل:
تتسم أهداف العدالة الانتقالية وآليات تطبيقها بالتعدد والتمايز، ومن ثم يجب تطبيقها من خلال استراتيجية وإطار مؤسسي يضمن تجانسها وتحقيق أهدافها علي النحو الأمثل.
ويستلزم هذا الإطار المؤسسي وجود تشريع وطني متكامل يحدد آليات العدالة الانتقالية الواجب اتباعها، والإجراءات الواجب تبنيها لتحقيق أهدافها، كما يوضح اختصاصات اللجان والهيئات، القضائية منها وغير القضائية القائمة عليها، بما يضفي على الإجراءات صفة الشرعية، ويجنب البلاد التحكم والعشوائية في المرحلة الانتقالية.
ومن أهم مميزات هذا التشريع أنه يوفر إجراءات جنائية فاعلة لإقامة مسؤولية قتلة المتظاهرين السلميين، تتغلب على قصور التشريعات الجنائية التقليدية، كما أنه يوفر آلية ناجزة للاستخدام الأمثل للأدلة والقرائن، تماشيا مع أعلى معايير العدالة الجنائية الدولية السائدة.
وتكتسب تجربة جنوب إفريقيا أهميتها - كأحد التطبيقات الناجحة لمفهوم العدالة الانتقالية - من نجاح المشرع الوطني، عقب انتهاء حقبة الفصل العنصري هناك، في تبني قانون خاص لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية، سمي "قانون تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة"، صدر في مايو 2005، وحدد اختصاصات ومهام الهيئة المختصة، وآليات عملها.
إن إصدار تشريع جامع بشأن العدالة الانتقالية من الممكن أن يجنب البلاد المشكلات والانقسامات التي أصابت نسيج المجتمع المصري. لكن يبدو أن الإرادة السياسية لتطبيق أهداف العدالة الانتقالية لم تتوافر بعد، غير أن هذا سوف يترتب عليه مزيد من التداعيات السلبية.
12- كيانات مستقلة ومحايدة:
يتطلب نجاح العدالة الانتقالية وجود هيئة مستقلة ومحايدة تقوم عليها، تحدد إجراءات إنشائها، وتشكيلها من خلال التشريع الذي يحدد في الوقت ذاته المعايير الواجب توافرها في أعضائها، فضلا عن تحديد أهدافها، واختصاصاتها، والمهام المنوطة بها، ونظام عملها، والضمانات المكفولة لها، والفترة الزمنية اللازمة لإنهاء أعمالها، كما ينظم عمل اللجان والجهات الأخرى التابعة لها مثل لجان تقصي وكشف الحقائق، والمحاسبة، والعفو.
وهناك ما يتجاوز خمس عشرة هيئة للعدالة الانتقالية، تم إنشاؤها خلال العقود الثلاثة الماضية في العديد من الدول لتقصي وكشف الحقائق وللمصالحة.
ويرتبط إنشاء هذه الكيانات بالسياق التاريخي، والسياسي، والثقافي السائد في كل مجتمع، فهي قد تتشكل في صورة لجان لتقصي ومعرفة الحقائق، أو هيئات للمصالحة، أو خليط منها.
وينتهي عمل لجان وهيئات العدالة الانتقالية عادة بإصدار تقارير ختامية تتناول أساسا عرض الإجراءات التي اتخذتها لأداء المهمة المنوطة بها، وسرد الوقائع التي تكشفت لديها، وما اتخذته من إجراءات بشأنها، وتحديد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، وغيرها من تجاوزات أخرى، وتقديم مقترحات لمعالجة تلك الانتهاكات والتجاوزات، وإصلاح مؤسسات الدولة، وبنيتها التشريعية، وما يعن لها من توصيات أخرى.
الإنصاف والإرادة الصادقة في تحقيق العدالة الفعلية وليست الشكلية أو الجزئية
إن جهود المصالحة التي آتت أكلها وحققت أهدافها في جنوب إفريقيا أو الجزائر كان التوجه فيها قويا نحو المصالحة ولم يكن رشوة ضمير من طرف نحو الآخر أو إبراء للذمة أو إقامة للحجة السياسية وغير ذلك من الأهداف التي تبتعد كل البعد عن صدق النوايا في تحقيق مصالحة صادقة من أجل وطن يجمع الأطياف كافة.
ولذلك، من الضروري التعرف على نماذج الدول الأخرى، والتي شابهت ظروفها وظروف مصر لاستيعاب دروس تلك التجارب مع مراعاة الخصوصية الوطنية.
تجارب المصالحة حول العالم: دروس للحالة المصرية
-جنوب أفريقيا: لجنة الحقيقة والمصالحة
تعتبر لجنة الحقيقة في جنوب أفريقيا من أبرز لجان المصالحة الوطنية في العالم، فخلال 45 عاما من التمييز العنصري وما يقرب من 30 عاما من المقاومة المسلحة من قبل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ANC) وغيره)، عانى عشرات الآلاف من مواطني جنوب أفريقيا من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم حرب.
وقد قامت المنظمات غير الحكومية بدور كبير في صياغة القانون الخاص بإنشاء هذه اللجنة، حيث وضعت معايير اختيار أعضائها على نحو يضمن النزاهة ومشاركة الجميع من غيرالمنتمين للأحزاب السياسية، حتى انتهوا إلى مقترح خاص بمعايير وآلية ا?ختيار وسلموه للحكومة، التي قامت بقبوله.
وتم توجيه الدعوة إلى جميع المنظمات والأحزاب السياسية والكنائس وممثلي المجتمع المدني لترشيح أعضاء اللجنة، وطرحوا حوالى 299 مرشحا، كما قامت بعض المنظمات غير الحكومية بإعداد نبذات عن السير الذاتية للمرشحين لتقييمهم. ثم تولت لجنة مختصة عملية ا?ختيار وقامت بإنتقاء 25 شخصا منهم، كما اختار الرئيس ماندي? 17 اسما مثلوا كافة الأطياف، وفي النهاية ضمت اللجنة 7 نساء، و7 من الأفارقة السود، و6 من البيض، واثنين من المخلطين، واثنين من أصل هندي، وقد وصل عدد موظفى هذه اللجنة إلى 350 شخص، بميزانية قدرها 18 مليون دولار أمريكي سنويا، واستمر عملها على مدار عامين ونصف العام.
وكان قانون هذه اللجنة هو الأكثر تعقيدا على مدى التاريخ، حيث تمتعت اللجنة بصلاحيات واسعة واستثنائية، منها: حق التحقيق والاستدعاء؛ التحقيق في أنماط انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها الموظفون الرسميون وأعضاء المنظمات المعارضة خلال فترة 34 عاما؛ إصدار توصيات، دفع تعويضات إلى ضحايا الانتهاكات؛ وأخيرا الصلاحية شبه القضائية في منح العفو، في ظروف معينة، لمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان.
وقد استمعت اللجنة لشهادة 23 ألف شخص من الضحايا والشهود، وظهر ألفين منهم في جلسات علنية، وحظيت هذه الجلسات بتغطية إعلامية مكثفة، وتناولتها البرامج الإذاعية ونشرات الأخبار التلفزيونية.
وكان من أعظم ما ابتكرته هذه اللجنة، وأكثره إثارة للجدل هو صلاحيتها في منح قرارات العفو عن الجرائم ذات الدوافع السياسية. وقد تلقت اللجنة أكثر من 7 آلاف طلب عفو، معظمها تم رفضه في نهاية المطاف، ولكنها منحت قرارات العفو فقط لأولئك الذين اعترفوا بضلوعهم فى جرائم ذات دوافع سياسية.
كانت لجنة العفو تبحث في العوامل المتعلقة بتحديد ما إذا كان مقدم الطلب يستوفى شروط العفو، بما في ذلك، على سبيل المثال، إذا كان هناك تناسب بين الجريمة المرتكبة والهدف السياسي المنشود.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1998، صدر التقرير النهائي للجنة في خمسة مجلدات، وأثار جدلا شديدا، بالإضافة إلى محاولة من جانب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لمنع صدوره. وبالرغم من أن التقرير النهائى للجنة تم اعتماده رسميا في البرلمان بعد عدة أشهر، إلا أن الحكومة لم تلتزم بتنفيذ العديد من التوصيات التي خرجت بها اللجنة، بما في ذلك التوصيات المتعلقة بجبر الضرر وتعويض الضحايا، إلا عقب الضغط المكثف من قبل المجتمع المدني.
-غانا: لجنة المصالحة الوطنية
غانا هي بلد في غرب أفريقيا شهدت عدد من فترات الحكم غير الدستوري منذ حصولها على الاستقلال عن بريطانيا عام 1957.
تولت القيادة حكومة منتخبة ديمقراطيا عام 2001، فأعلنت عن عزمها على التحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها أشخاص في السلطة خلال هذه الفترات، وشكلت لجنة المصالحة الوطنية في غانا (NRC).
وقد بذلت منظمات المجتمع المدني جهودا لنجاح تلك العملية في إطار من التنسيق والتشاور، إذ شكلت ائت?ف المجتمع المدني للمصالحة الوطنية، الذي تألف من 25 هيئة دستورية ومنظمة غير حكومية، وبدأ التنسيق والتعاون بين الائتلاف وبين اللجنة منذ كانون الثاني/ يناير 2004، وهو ما كان له دور أساسي في وضع أسس العدالة ا?نتقالية من خلال: وضع الأطر النظرية، المشاركة الشعبية، الجهات التشريعية، وأخيرا المجال ا?ع?مي.
وفي 2 أيلول/ سبتمبر 2002، بدأت اللجنة في تلقي البيانات عن انتهاكات حقوق الإنسان من الجمهور العام، ثم بدأت جلسات الاستماع العلنية في 14 كانون الثاني/ يناير 2003.
وقد تقرر أن تكون جلسات الاستماع علنية، إلا إذا رأت اللجنة أن ذلك غير ممكنا كأن تؤدى علنية الجلسة إلى أزمة سياسية، لذلك فلها أن تقرر أن تكون الجلسة وراء الأبواب المغلقة، كإجراء احترازي ضد الاضطرابات السياسية؛ أو فى حالة احتمال تعرض الشهود للخطر للانتقام منهم.
واستمعت اللجنة إلى شهادة 3 آلاف ضحية و79 شهادة من الجناة المتهمين، وأن مؤسسات تطبيق القانون والقوات المسلحة كانت مسؤولة عن أعلى نسبة من الانتهاكات، موصيا ببرنامج جبر ضرر شامل، بما في ذلك الاعتذار، إقامة نصب تذكاري، والتعويض النقدي. واقترحت اللجنة تعويضات لحوالي 3 آلاف من ضحايا القمع تحت حكم رولينغز، وكان المبلغ المدفوع للضحايا يقدر بحسب حجم الانتهاكات التي تعرضت لها كل ضحية. كذلك أوصت اللجنة بضرورة القيام بإصلاحات داخل السجون والشرطة والجيش.
جواتيمالا: لجنة الإيضاح التاريخي
استمرت الحرب الأهلية في جمهورية جواتيمالا بأمريكا الوسطى أكثر من 30 عاما بين القوات الحكومية وبين الاتحاد الثوري الوطني الجواتيمالي، وأسفرت عن مقتل واختفاء نحو 200 ألف شخص.
وكان من بين أكثر القضايا الخلافية على الطاولة أثناء مفاوضات التصالح هي كيفية تناول مسألة انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي حدثت في الماضي. وقد تم حل هذه المعضلة في حزيران/ يونيو 1994 عندما وافقت الحكومة والاتحاد الثوري على إنشاء لجنة الإيضاح التاريخي CEH.
وقد لاقت فكرة إنشاء لجنة للمصالحة اهتماما كبيرا من المجتمع المدني ومجموعات الضحايا في جواتيمالا، التي ضغطت بشدة على المفاوضين خلال المحادثات، ولكن نظرا لأن العصابات المحاربة والحكومة كانت ممثلة في اتفاقيات السلام، فقد كانت لجنة تقصي الحقائق المنشأة تحت رعاية الأمم المتحدة حلا وسطا ذات صلاحيات محدودة.
وقد وجهت للجنة انتقادات بسبب قصر الفترة الزمنية التي أعطيت لها، حيث منحت ستة أشهر فقط لممارسة عملها، مع إمكانية التمديد لمدة ستة أشهر أخرى.
وعملت اللجنة خلال عدة مراحل، مع موظفين يتراوح عددهم بين 200 شخص في 14 مكتبا ميدانيا، انخفض عددهم إلى أقل من 100 شخص خلال أشهر التحليل والتحقيق وكتابة التقارير. وكانت الميزانية الإجمالية للجنة حوالي 11 مليون دولار أمريكي، دفعت الحكومة الجواتيمالية مليون منهم؛ فيما جاء باقي التمويل من الولايات المتحدة، وحكومات النرويج وهولندا والسويد والدنمارك واليابان.
وكان عمل اللجنة الأصيل يتمحور حول توضيح انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف المرتكبة بين عامي 1962 و1996، والتي تتصل بالنزاع المسلح. كما كان مطلوبا منها أن تعد تقريرا نهائيا على أساس تحقيقاتها والاستنتاجات، فضلا عن التوصيات التي خرجت بها لتشجيع السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، والحفاظ على ذكرى الضحايا.
فقد تمكن موظفو اللجنة من زيارة ما يقرب من ألفي قرية وتسجيل حوالى 8 آلاف شهادة، بما في ذلك 500 شهادة جماعية.
وفي شباط/ فبراير 1999، انتهت اللجنة من تقريرها المطول شديد اللهجة، وعرضته على الرأي العام في احتفالية شعبي، وهو التقرير الذي وصف "مناخ الرعب" بالبلاد نتيجة للأعمال الوحشية التي تم ارتكابها، متضمنا تحليلا اقتصاديا لهذا النزاع المسلح، حيث قدر تكاليف الحرب، بما في ذلك خسارة الإنتاج بسبب أعداد الوفيات، بما يعادل 121% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1990.
ونسبت اللجنة 93% من الانتهاكات الموثقة للجيش أو للقوات شبه العسكرية المدعومة من الدولة؛ و3% إلى الاتحاد الثوري الوطني الغواتيمالي، كما أدانت موظفي الدولة بإرتكاب إبادة جماعية في السنوات 1981-1983 ضد مجموعات من شعب المايا. وانتهى التقرير بفصل من التوصيات لم توافق الحكومة على تنفيذها إلا بعد الضغط المستمر من منظمات المجتمع المدني، وهو ما انتهى لإحراز تقدم تقدم في واقع الحياة بجواتيمالا.