لم يكن حزب الله ليستطيع أن يحقق المدّ الذي حققه داخل الطائفة الشيعية في
لبنان، لولا طروحاته المستندة إلى منطلقات دينية ومذهبية وتاريخية واعدة بمستقبل شيعي نافذ. وهذا وإن كان لا يعني أن كل الشيعة المؤيدين للحزب ملتزمون دينياً، لكنه يفرض على الحزب ومنتسبيه بالضرورة حدّاً معيناً من الإلتزام الشرعي هو جزء من هويته التنظيمية ضمن بوتقته أولاً ومن صورته الإعلامية أمام بيئته الحاضنة ثانيا.
في السياسة والحرب والتحالفات والعلاقات الخارجية، هناك مروحة واسعة من الرُّخص الشرعية عند الحزب المقلّد أساساً للولي الفقيه الذي يعود إليه وحده أمر البت في كثير من مفاصل القرارات السيادية للأمة، ويتبعه فيها المقلدون دون نقاش، كرُكن أساسي من أركان البَيعة والتقليد.
أما في الامور الشرعية فهامش اجتهادات الأئمة المقلَدين المعروفين ضيّق ويلتزم الثوابت غير القابلة للجدل في المذهب الشيعي كحرمة شرب الخمر على سبيل المثال، وحرمة الغناء والموسيقى، وهذا هو موضوعنا الراهن.. الغناء والموسيقى.
في بحثٍ تحت عنوان "فقه الولي.. الغناء والموسيقى" تنشر شبكة المعارف الإسلامية على موقعها الإلكتروني فتاوى لمجموعة من علماء الشيعة خلصت إلى تحريم الموسيقى والغناء. فهل لهذا الحكم استثناءات؟ في المسألة قولان -يتابع البحث- الأول هو القول بعدم وجود أي استثناء لحكم حرمة الغناء، والثاني هو القول بالاستثناء المنقسم إلى نوعين هما الأغاني (كلام + لحن + أداء) التي تقال في مناسبات معينة هي الغناء لسَوق الأبل المعروف بالحداء، والغناء في زفاف العرائس. ثم الاستثناء من لحن الغناء، ويتمثل هذا في قراءة القرآن لكريم وقراءة المراثي الحسينية...
فيروز "سفيرة لبنان إلى النجوم" يندرج غناؤها مع المعازف المرافقة لها، ضمن الغناء الحرام وفق الفتاوى الشيعية أعلاه، ووفق الغالبية العظمى أيضا من علماء أهل السنة والجماعة، وإذا أضفنا إلى المسألة فتوى إنكار المنكر بمندرجاته التراجعية الثلاثة، باليد عند الاستطاعة وإلا باللسان وإن تعذر فبالقلب، يصبح منع أغاني السيدة فيروز حيث يستطيع الملتزم بتلك الفتوى واجباً شرعياً يأثم تاركُه، وهذا ما لم يقبله على أنفسهم طلاب التعبئة التربوية لحزب الله في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، فمنعوا مؤخراً بوهج قوة حزب الله وسلاحه، زملاء لهم أرادوا إحياء ذكرى زميل متوفى حديثاً بحادث سير من خلال احتفال صغير في ساحة الجامعة يتخلله بث أغانٍ كان يحبها لفيروز، فقامت قيامة لبنان ولم تقعد بعد.
في البيئات الملتزمة دينياً في العالم الإسلامي سيلقى الفعل المجرد بمنع الموسيقى والأغاني كل موافقة وثناء على الأرجح، لكن مشكلة حزب الله في لبنان أنه قدم نفسه طوال الأعوام الماضية على أنه حزب يحترم الحريات ولا يدَع إلتزامه الديني يتعدّى على حريات غير الملتزمين أو المختلفين دينياً أو حتى المُلحدين. ولطالما اعتمد تبريره لمشاركته بالقتال في سوريا وما بعدها، بأنه "يقاتل الإرهاب في عقر داره قبل أن يأتي إلينا، وبأن هذا الإرهاب يضهد المختلفين معه ويجبرهم على شروط الحياة الخاصة به".
منعُ حزب الله بث الأغاني والموسيقى في الجامعة اللبنانية التي جعلها أكثر من مرة مسرحاً لإقامة احتفالاته الدينية والحزبية مع ما يتخللها من أناشيد، يطرح عدة تساؤلات على المستويات السياسية والثقافية:
أولا: هل يحق لأي مجموعة في لبنان أن تفرض شروطها الدينية على الحياة والمظاهر العامة للآخرين؟
ثانيا: ماذا بعد منع الأغاني، وهل يسير لبنان على خطى العراق الذي منع برلمانه مؤخراً الخمور في البلاد؟
ثالثا: في ظل الحديث منذ سنوات عن مؤتمر تأسيسي جديد لبنان يعيد دراسة التوازنات في قوانينه وبين عائلاته الروحية، هل سيفتح هذا المؤتمر لوعُقِد ملفات اجتماعية ذات أبعاد دينية؟
رابعا: هل من الإنصاف أن يُجبَر الملتزمون دينياً في المقابل بشروط الحياة والمظاهر العامة للآخرين التي ستجبر الملتزمين بِ "المُحرّمات"؟
خامسا: ألم يفرض الغرب منع التدخين في الأماكن العامة وتبعه العالم دون اعتراض، فلماذا يُجبر البعضُ على سماع الموسيقى، إذا كانت تسبب لهم أذىً ما بطريقة أو بأخرى؟
والسؤال الأهم في الوقت الراهن، هل ما جاء في مقدمة الدستور اللبناني من أن "لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه" مادة ثابتة ونهائية؟