يمكن وصف
خطاب أبو بكر
البغدادي زعيم تنظيم الدولة الإسلامية الأخير بخطاب حرب وعداء العالم أجمع، ولا غرابة في ذلك فخطاب البغدادي موجه بصورة أساسية لمقاتلي التنظيم وأتباعه وأنصاره؛ في ظل حرب دولية شاملة على مقر الخلافة المفترض في
الموصل، وتجتمع على حربه ومناهضته واستئصاله دول وطوائف وإيديولوجيات مؤتلفة ومختلفة. ومع ذلك فإن خطاب تنظيم الدولة لا يزال يحظى بدعم وتأييد وتعاطف فئات جيلية فتية في العالم العربي والإسلامي.
لا جدال أن خطاب البغدادي الأخير يلخص إيديولوجية التنظيم المتطرفة العنيفة في بناء تصوراتها حول الإسلام والعالم والإنسان، إذ يتضمن خطاب أبو بكر البغدادي الذي بثّته مؤسسة "الفرقان" التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في 3 تشرين ثاني/ نوفمبر 2016 بعنوان "هذا ما وعدنا الله ورسوله" رؤية إيديولوجية دينية سياسية مفرطة في التبسيط وشديدة الاستقطاب، تستند إلى سياسات هوية ثنائية ترتكز على تقسيم العالم والدول إلى دار حرب ودار إسلام، وتختزل البشر والجماعات إلى مؤمن وكافر، وهي منغلقة على فقه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.
وفي سياق الحرب الدولية على التنظيم، يفقد البغدادي القدرة على معرفة أسرار جاذبية التنظيم وقدرته على الاستقطاب والتجنيد، إذ تغيب الأسباب الموضوعية وتظهر العلل الذاتية، إذ تكمن جاذبية التنظيم باعتباره يمثل إيديولوجية احتجاجية سنيّة غاضبة لما آلت إليه أحوال العرب
السنة في العراق من إقصاء وتهميش وإذلال منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وهيمنة المكون الشيعي، وفساد العملية السياسية وغياب النخب السنية المسؤولة، وضعف الدعم العربي والإسلامي، حيث بات التنظيم يمثل "أملا" للمقهورين والمهمشين كدرع واق لهوية سنية مهددة في وجودها ومستقبلها.
هكذا، فإن البغدادي يقدم خطابا هوياتيا يتجاوز الموضوعية، فالتعاطف مع خطاب التنظيم لا يستند إلى قناعات دينية بالصيغة السلفية، وإنما لكونه يصف واقعا لا يمكن نكرانه بسهولة، فالحرب التي تجري في الموصل بقيادة أمريكا وحلفائها، والحرب التي تدور رحاها في حلب بقيادة روسيا وشركائها؛ يصعب فهمها لدى فئات وقطاعات عربية وإسلامية على أنها حرب عادلة تستهدف "الإرهاب"، وثمة قناعة واسعة الانتشار أن موضوع الإرهاب يستخدم كغطاء لحرب الإسلام السني، والبغدادي يستثمر تلك القناعات السائرة دون لبس أو غموض؛ إذ يتماهى مع تلك الاعتقادات بقوله: "ها هو العالم الكافر اليوم قد حشر ونادى وتحالف وتحزب وجمع كل كيده، وتألب كيده وشركاءه وأحلافه وأولياءه لحرب الإسلام وأهله، وكيد المؤمنين ودينهم بكل مايملكونه من كيد وما يقدرون عليه من آلة حربية وعسكرية جوية أو برية أو بحرية، كل هذا للسعي حثيثا لإطفاء نور الله وعداوة لدينه ومنهاجه في الأرض، وخوفا وهلعا من أن تعود لأهل الإسلام والسنة خلافتهم وقوتهم ويعود لهم التمكين والظهور كما كان أول مرة".
لا يخرج البغدادي في خطابه حول معركة الموصل عن تصورات شائعة في العالم العربي حول أهداف المعارك الدائرة، وتوصيف الأطراف المشاركة فيها وأهدافها، لكنه يضفي عليها سمات هوياتية دينية تتجاوز طبيعة الصراعات السياسية والمصالح القومية، ويقفز على الأبنية الامبراطورية والتصورات الامبريالية الدنيوية، ويشدد على خفايا الهوية الدينية الكامنة خلف الدول والامبراطوريات، ولا يلتفت إلى أي محركات غير دينية فيصف ما يحدث في معركة الموصل بالدوافع الدينية الخالصة، حين يقول: "لقد أرصد أعداء الله من اليهود والنصارى والملاحدة والرافضة والمرتدين، وأمم الكفر جمعاء إعلامهم وأموالهم وجيوشهم وعتادهم لحرب المسلمين والمجاهدين في ولاية نينوى، بعد أن رأوها قاعدة من قواعد الإسلام ومنارة من مناراته تحت ظل الخلافة".
تجسد خطابات البغدادي العمومية المتعلقة بطبيعة تصورات المعركة الدولية ضد تنظيم الدولة موضع خلاف في أماكن عديدة في العالمين العربي والإسلامي، لكن التنظيم الذي نتج عن عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي يجد تعاطفا في الحالة العراقية مع تنامي الطائفية وهيمنة المكونات الشيعية في عراق ما بعد الاحتلال، وتصبح جاذبيته أشد فعالية لدى فئات سنية واسعة، ولذلك فإن البغدادي يخاطب سنة العراق بصيغة استنكارية واضحة حيث بقول: "يا أهل السنة في العراق أفي كل مرة لا تعقلون؟ استمرأتم الذلة والمهانة حتى رتعتموها، وتُهتم كما تاه بنو إسرائيل من قبلكم! أوما ترون الرافضة كل يوم يسومونكم سوء العذاب؟ يغزون بلادكم بحجة محاربة الدولة الإسلامية".
الإيديولوجية الاحتجاجية السنية لما آلت إليه أحوال العالم العربي السني من ضعف وفساد وتمزق ودكتاتورية؛ يتماهى معها البغدادي ويضفي عليها طابعا سنيا سلفيا قاتلا، حيث تجري عمليات خلط بين تطلعات الشعوب بالتخلص من الفساد والسلطوية والظلم ونشدان حياة أفضل وحرية أشمل وديمقراطية أرحب، لكن البغدادي يخاطب شعوب المنطقة بصيغة "يا أهل السنة"، وهو مفهوم اختلافي يضم أفرادا وجماعات تمتلك تصورات مختلفة ومتعددة، ومع ذلك يستثمر الأوضاع الكارثية لأحوال العالم العربي وهي تتمتع بالمصداقية النسبية وصفيا، إلا أن العلاجات تختلف فيها الأنظار.
في سياق النزعة الهوياتية المفرطة هاجم البغدادي أبرز دولتين في العالم العربي والإسلامي لنزع تمثيل السنة في العالم، واتهمهما بالتواطؤ مع أعداء السنة فهو يشن على السعودية حملة شعواء يتهمها بالتخلي عن الهوية السنية والعمل على "علمنة البلاد"، ودعا إلى التمرد على قيادة السعودية وشن حرب شاملة، وأما تركيا فقد عمل البغدادي على التشكيك بهويتها السنية وأهدافها الاستراتيجية، حيث يصفها بـ"تركيا العلمانية المرتدة"، ولم يكتف البغدادي بنزع هوية تركيا الإسلامية السنية بل حسم خيارات تنظيم الدولة بمواجهتها بلا هوادة، حيث خاطب أنصار التنظيم بالعمل على التعامل مع تركيا كعدو فهو يقول: "أيها الموحدون، لقد دخلت تركيا اليوم في دائرة عملكم ومشروع جهادكم! فاستعينوا بالله واغزوها واجعلوا أمنها فزعا ورخاءها هلعا، ثم أدرجوها في مناطق صراعكم الملتهبة".
في سياق عمليات نزع الهوية، وصف البغدادي جماعة الإخوان المسلمين بالكفر والردة وفقدان الاستقلالية والهدف؛ إذ يقول: "لقد غدا الإخوان المرتدون رأس حربة مسمومة يحملها الصليبيون لحرب".
على الرغم من كون خطاب البغدادي عاما لكنه موجه بصورة أساسية لأفراد تنظيم الدولة الإسلامية وأنصاره بمكوناته الرئيسية الأربعة، التي تتمثل أولا: بمقر التنظيم وولاياته في العراق وسوريا، حيث يخاطبهم باستخدام أكثر التكتيكات العسكرية نجاعة حين يقول: "يا كتائب الانغماسيين ويا قوافل الاستشهاديين ويا سرايا الاقتحاميين ياطلاب الشهادة والحسنى وزيادة يا سعاة إلى الجنان والرضوان: انطلقوا على بركة الله، فإن الحرب حربكم حولوا ليل الكافرين نهارا وخربوا ديارهم دمارا واجعلوا دماءهم أنهارا"، وثانيا: ولايات التنظيم الخارجية "إلى جنود الخلافة في خراسان وبنجلادش وأندونيسيا والقوقاز والفلبين واليمن والجزيرة وسيناء، ومصر والجزائر وتونس وليبيا، والصومال وغرب إفريقيا: "اعلموا أنكم اليوم دعائم الإسلام في الأرض وأوتاد الخلافة فيها، أذهلتم أمم الكفر بجهادِكم وصبركم و ثباتكم" وثالثا: الخلايا والشبكات، ورابعا: الذئاب المنفردة.
خلاصة القول، إن البغدادي يرتكز في خطابة على مسألة الهوية السنية، لكنه يخلط بين أسباب جاذبية التنظيم الإيديولوجية السياسية في عراق ما بعد الاحتلال والمسألة الدينية بتأويلاتها السلفية المفرطة، فالمؤكد أن جاذبية التنظيم وقدرته على التجنيد نشأت عن كونه يمثل إيديولوجية احتجاجية سنية تعتقد أن الإسلام السني يتعرض لحملة ظالمة تستهدف الإسلام على الصعيد الغربي، كما تتعرض لحرب إقليمية طائفية تقودها إيران ومليشياتها الشيعية في ظل أنظمة عربية وإسلامية عاجزة عن تلبية تطلعاتها بالكرامة والحرية والعدالة، وليس بسبب هويتها الإيديولوجية السلفية المتطرفة وتصوراتها الفجة وحكامتها الشاقة.