في تصريح لرئيس حركة
النهضة راشد
الغنوشي أعلن فيه أنه "لا يمكن أن نكفّر أحدا يقول لا إله إلاّ الله".. وبناء عليه رفض أن يكفر "الدواعش"، مستندا في موقفه على القول: "نحن أهل السنّة لا نكفّر أحدا يقول لا إله إلاّ الله، بل نقول له: أنت ظالم.. مخطئ.. متطرّف.. متشدّد".
ولم يكتف بذلك، وإنما اعتبر تنظيم
داعش ''حالة متوترة وغاضبة''. وأوضح: "أنا لا أبحث لهم عن مبرر، هم صورة من صور الإسلام الغاضب الذي يخرج عن العقل والحكمة".
وأشار في هذا السياق إلى ما يتعرض له
السنة في العراق وفي سوريا من تهجير الملايين مقابل توطين الشيعة الوافدين من بلدان أخرى، "ما أثار غضب السنة، ودفع بعضهم إلى القيام بأعمال عنيفة وإجرامية".
لم يمر هذا التصريح دون أن يثير ردود فعل إعلامية وسياسية مناهضة للغنوشي ولحركة النهضة. ورأى بعضهم أن ما جاء على لسانه حول عدم تكفير الدواعش ليس سوى دليل على "محاولة تبرير جرائم التنظيم، وتخريجة دعوية جديدة، تلقي بظلال قاتمة على ما ادعته الحركة حول فصلها بين الدعوي والسياسي في مؤتمرها الأخير، وتتطلب مراجعة واضحة حازمة"، بحسب ما جاء على لسان محسن مرزوق الأمين العام لحزب مشروع
تونس المنشق عن "نداء تونس".
ودعا مرزوق كل الأطراف الوطنية إلى "اتخاذ موقف وطني من تصريحات الغنوشي"، معتبرا أنّ الأخطر من حمل السلاح، هو الأيدولوجيا التي تدعم حاملي السلاح، مضيفا أنه "لا يجب التبرير للإرهابيين الذين لا علاقة لهم بالإسلام الغاضب أو بالإسلام المسرور".
بعيدا عن أجواء الاحتقان في تونس، يحيلنا هذا الجدل الدائر منذ سنوات، الذي جاء هذا التصريح ليزيد من تغذيته، وإعادة الصراع الأيديولوجي من جديد بين الأطراف المتنازعة حول السلطة، إلى مسألة كيفية إدارة العلاقة بين الديني والسياسي.
سبق وأن أعلنت قيادة حركة النهضة، بأنها لم تعد جزءا من دائرة الإسلام السياسي، وهذا الإعلان يفترض فيه ألا يقف عند نية مغادرة مربع الإخوان المسلمين، وإنما المنتظر من ذلك هو إرساء خطاب ومنهج عمل مختلف عما قامت عليه كل الحركات الإسلامية، التي تؤمن بأن الإسلام منهج حياة، وتعهدت بالسعي إلى إقامة "الدولة أو الخلافة الإسلامية".
في ضوء هذا السياق، يصبح من غير الوارد أن يستند رئيس حزب يفصل بين الدعوي والسياسي في موقف له على تراث فقهي لهذه الفرقة أو تلك، وبقطع النظر عن السياق التاريخي الذي تحكم في إنتاجه.
إذ لا يصح أن يكون الموقف السياسي من الدواعش، مستندا على رأي أهل السنة والجماعة من مسألة التكفير وشروطه، وإنما يفترض أن يقوم على ما يمثلونه من خطر مباشر على مصالح الأمة، وما يشكلونه من تهديد للأمن وللحريات والحقوق والدولة والمجتمع.
وبهذا المنظور، يقع تجنب الخلط، ولا يجد السياسي نفسه في وضع محرج قد يفتح المجال أمام خصومه أو حتى عند عموم الناس لتأويل موقفه مثل القول بأنه عندما يجزم بعدم جواز تكفير هؤلاء، فإنه يصبح متهما بكونه يفتح الباب أمام تبرير أعمالهم، وأنه مساند لهم ضمنيا بحكم دفاعه عن كونهم جزءا من جماعة المسلمين، وليسوا خارجين عنها وعليها.
أما وصف الدواعش بكونهم يمثلون "الإسلام الغاضب"، فهذا أيضا يحمل خلطا بين مهمة الباحث وبين مهمة السياسي.
فالإسلام الغاضب أو الاحتجاجي هي من المصطلحات التي نحتها بعض المستشرقين الغربيين لفهم ظاهرة الجنوح نحو العنف والإرهاب لدى بعض الجماعات، لكن استعارة هذه المصطلحات من قبل رئيس حزب قادم من داخل دائرة الإسلام السياسي، من شأنه أن يوجه رسائل مختلفة أو مناقضة لأهداف ناحتي تلك المصطلحات.
لأن مصطلح الإسلام الغاضب من شأنه أن يضفي قيمة إيجابية على الدواعش، وقد يوحي بكونهم يمثلون الصوت الأعلى والصادق والأقوى لمناهضة ما تعرض له أهل السنة في كل من العراق وسوريا، في حين أن المشكلة لها أبعاد متعددة، وان الأوصاف والتسميات تحتاج لكثير من الدقة حتى يكون اللفظ معبرا عن الحالة المعقدة التي تواجهها المجتمعات العربية والمسلمة حاليا.
لقد شددت حركة النهضة في البيان التوضيحي الذي أصدرته بالمناسبة على أنها "حزب سياسي يهتم بالشأن العام التونسي، ويهتم بالأوضاع الإقليمية والدولية من خلال المتابعة والتحليل السياسي، وليس من خلال إصدار الأحكام الفقهية أو العقدية".
وهو قول مهم، لكنه يبقى في حاجة إلى تأطير منهجي، وإلى كثير من الحذر من التورط في كل ما من شأنه أن يلغم الخطاب السياسي، ويثير شكوك المنافسين والخصوم وحتى عموم المواطنين.
إذ لا خلاف في القول بأن حركة النهضة مختلفة عن "تنظيم الدولة"، لكن ذلك لا يكفي وحده لطمأنة الجميع بأن الخلاف بينهما جذري وكامل، إذا ما صدرت تصريحات من شأنها أن تثير الشكوك ليس حول وسائل العمل ومنهجية التغيير، ولكن أيضا حول ما يتعلق بمفهوم الإسلام ودوره.
فالمنعرج الذي بدأ بتنظيم القاعدة، وتطور بشكل خطير مع تنظيم الدولة، قد أدى إلى كارثة نعيش اليوم نهايتها العسكرية، لكن مغامرتها الفكرية قد تبقى فاعلة ومؤثرة إذا لم يتم مواجهتها بشكل جدي وعميق في مستوى التصورات والمفاهيم، وآليات قراءة النص الإسلامي، وهي مهمة لا تزال تنتظر من ينجزها بجدية وشجاعة.