لا يتوقف الجدل في أوساط النخب الثقافية والسياسية العربية حول مفهوم
الدولة المدنية، بين من يقطع بأن الدولة المدنية لا يمكن أن تكون كذلك من غير أن تكون علمانية، وبين من يرى "أن الدولة المدنية ليست نقيضا للدولة الإسلامية، لأن المعايير التي تقوم عليها الدولة المدنية متوفرة في نظرة الإسلام للدولة"، وفقا للقيادي الإخواني الأردني زكي بني ارشيد.
وفي الوقت الذي يلتقي على الرأي الأول اتجاهان متناقضان أيديولوجيا، أولهما: التيارات
العلمانية التي يؤكد منظروها على علمانية الدولة المدنية، وثانيهما: الاتجاهات الإسلامية الراديكالية والتي تصر على اعتبار الدولة المدنية هي عين الدولة العلمانية، كما عبر عن ذلك بصرامة شديدة حزب
التحرير الإسلامي في الأردن، فإن غالب تيارات "الإسلام السياسي" اتخذت موقفا مغايرا، رأت فيه أن "الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها على مختلف المستويات" بحسب المفكر الإسلامي المغربي الدكتور سعد الدين العثماني.
الدولة المدنية لا تكون إلا علمانية
لماذا لا يمكن للدولة المدنية إلا أن تكون علمانية؟
وفقا لأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية الأردنية، جمال الشلبي فإن من طبيعة الدولة المدنية أن تكون علمانية، والعلاقة بينهما متبادلة، ولا يمكن تصور وجود دولة مدنية من غير أن تكون علمانية.
وأوضح الشلبي أن الدولة المدنية هي دولة سيادة القانون، وأن الناس متساوون أمامه، بصرف النظر عن عقائدهم واتجاهاتهم الفكرية وعرقهم وجنسهم، وهي تقف على مسافة واحدة من جميع مكوناتها المجتمعية، من غير انحياز عقائدي أو أيديولوجي لأي مكون.
وأضاف الشلبي لـ"
عربي21": "في ظل الدولة المدنية لا بد من تحييد دور الدين في الممارسة السياسية، وإدارة شؤون الدولة بعيدا عن سلطة رجال الدين وسلطانهم، وهذه هي العلمانية في صورتها الحقيقية، التي لا بد أن تكون ملازمة للدولة المدنية".
ورفض الشلبي المقولة التي يرددها بعض الإسلاميين من أن الدولة المدنية وسيلة وأداة محايدة، يمكن لأي طرف تشكيلها بحسب مبادئه وتراثه الديني والقومي، مؤكدا أن الدولة المدنية لها محددات واضحة، وخصائص محددة، لا يمكن وصفها بالمدنية إلا بها.
بدوره قال الكاتب الصحفي والباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية، إبراهيم غرايبة: "يستحيل أن تكون دولة مدنية من غير أن تكون علمانية".
وجوابا عن سؤال "
عربي21" لماذا يستحيل أن تكون كذلك؟ أشار غرايبة إلى أن "الحكم المدني هو التعبير الأصلي.. ويعني أن يتساوى جميع الناس تحت مظلة حكمه، وليس فيه لأحد حق إلهي أو طبقي، وعلى ذلك فإن تنظيم الدولة مستمد من ولاية المواطنين على السلطة، وهذا يقتضي بالضرورة أن الناس قادرون على إدراك وتمييز الحق والخير والجمال.
وتابع غرايبة: "ولأن الناس قادرون، ومختلفون في تقديرهم ومعرضون للخطأ والهوى والمصلحة، يجب أن يكون الناس أحرارا في أفكارهم ومعتقداتهم وآرائهم لتصل الأمة إلى الموقف الأقرب إلى الصواب".
وأضاف غرايبة: "يجب أن يكون لكل رأي أو فكرة فرصة متساوية في الوجود والتعبير والحرية مهما كان عدد مؤيديها، لأنها يمكن أن تكون هي رأي الأغلبية في لحظة قادمة، ولأن ولاية المواطنين تقتضي حرية آرائهم حتى ولو لم تكن الأغلبية تؤيدهم".
الدولة المدنية هي عين الدولة العلمانية
من جهته أكدّ حزب التحرير الإسلامي المحظور في كثير من الدول الإسلامية، عبر بياناته الصحفية أن الدولة المدنية هي عين الدولة العلمانية، وبالتالي فإن حكمها هو حكم العلمانية.
وبيانا لموقف
الحزب من الدولة المدنية، قال رئيس المكتب الإعلامي للحزب في الأردن، ممدوح أبو سوا قطيشات: "إن فكرة الدولة المدنية هي عينها فكرة الدولة العلمانية، وهي مرادفة للدولة العلمانية، ولكن بعد أن يئس النظام والعلمانيون من رفض المسلمين للدولة العلمانية، أرادوا التخفيف من وقعها فروجوا لها بمصطلح الدولة المدنية".
وتابع قطيشات: "وأضافوا إليها عبارات شكلية مثل الدين في الدولة المدنية عامل أساسي، ومثل دولة مدنية بمرجعية إسلامية".
وردا على سؤال "
عربي21" لماذا رفض الحزب الدولة المدنية؟ قال قطيشات: "لأنها تناقض عقيدة الإسلام تمام المناقضة، ولأنها تجعل الحاكمية فيها للبشر ولا تجعلها لله سبحانه وتعالى، فالدولة المدنية باتت تطرح مقابل الدولة الإسلامية، أي دولة يفصل فيها الدين عن الدولة، وعن السياسة والتشريع".
ولفت قطيشات إلى أنه "لا دخل لسيادة القانون والدستور في كون الدولة مدنية، لأن هذا من بديهيات تعريف الدولة أية دولة، بل الفساد في القانون والدستور أنفسهما اللذين يستمدان تشريعاتهما من الأشخاص والمجالس المنتخبة من الشعب، وليس من مصادر الإسلام التشريعية الكتاب والسنة".
ووفقا لرؤية الحزب فإن الدولة لا تعتبر إسلامية، بمجرد نص دستورها على أن الدين عامل أساسي في بناء منظومة الأخلاق والقيم، لأن الحكم في الإسلام لا يرضى إلا أن تكون الحاكمية مطلقة لله سبحانه وتعالى، فلا يقبل أن يكون مصدرا من مصادر التشريع، لأن الإسلام وحده فقط مصدر التشريع في الدولة الإسلامية على حد قول قطيشات.
الأصول الإسلامية تؤسس للدولة المدنية
وكان لافتا في السياق ذاته، تلك الرؤية التي عبر عنها القيادي الإخواني الأردني، نائب المراقب العام السابق، زكي بني ارشيد، والتي جادل فيها بقوة لإثبات أن "المعايير التي تجعل الدولة مدنية.. هي ذاتها متوفرة في نظرة الإسلام للدولة".
وذكر بني ارشيد خمسة معايير لمدنية الدولة، وهي "تمثيلها إرادة المجتمع، وكونها دولة قانون، وانطلاقها من نظام مدني يضمن الحريات، ويقبل التعددية، وقبول الآخر، وقيامها على اعتبار المواطنة أساسا في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين فيها، وأخيرا التزامها بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة".
واعتبر بني ارشيد في رؤيته أن "مصدر الإشكال يكمن في استخدام المصطلح، فأغلب الذين يستعلمون عبارة "الدولة الإسلامية" يربطونها بجعل الشريعة مصدر القوانين، ولذلك يحصل الإشكال في التصور وإصدار الحكم، إذ إن بناء الدولة هو بناء سياسي، وليس مرتبطا بالضرورة بطبيعة النظام القانوني أو مرجعيته.. التي هي نتيجة لممارسة مقتضيات بناء الدولة ومؤسساتها في أمة من الأمم".
من جانبه رأى القيادي الإخواني الأردني، مدير عام صحيفة السبيل، جميل أبو بكر، أن مجرد الوقوف عند المصطلح سيثير الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، لكن تحليل المصطلح وتفكيكه ربما يوصل إلى نقاط تفاهم مشتركة بين مختلف الأطراف.
وسعيا منه لتفكيك مصطلح "الدولة المدنية" تساءل أبو بكر: ماذا تعني الدولة المدنية؟ هل هي دولة المواطنة، وتعني سيادة القانون، وإعطاء الناس حقهم في الانتخاب، وتؤسس للتداول السلمي على السلطة، وإعطاء الحريات للناس، والعدالة والمساواة؟ فإن كانت هذا ما تعنيه الدولة المدنية، فالإسلام قد نص على ذلك، وأسس له.
واعتبر أبو بكر في حديثه لـ"
عربي21" أن المبادئ والأصول التي تقوم عليها الدولة المدنية تتوافق مع ما دعا إليه الإسلام، ولا تتناقض معها أبدا، لذا فإنه من المؤمنين بالدولة المدنية بمرجعية إسلامية، تعبر عن هوية الأمة وحضارتها.
يُذكر أن الجدل حول الدولة المدنية ازداد سخونة في الأردن مؤخرا، بعد "الورقة النقاشية السادسة" التي نشرها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في السادس عشر من الشهر الماضي، تحت عنوان: "سيادة القانون أساس الدولة المدنية".