حققت صحيفة “القدس” الصادرة في العاصمة الفلسطينية المحتلة سابقة وسبقا كان لهما ما بعدهما. السابقة هي خطوة تطبيعية بامتياز لم يسبقها لها منبر إعلامي أوسلوي آخر، وهي فتح صفحاتها على الرحب والسعة لتغدو منبرا صال وجال من خلاله مجرم من أمثال ليبرمان، وزير الحرب الصهيوني، مخاطبا الشعب الفلسطيني مباشرة، وموجها عبرها ما شاء من رسائل شيَّعها لكل من يهمه الأمر في الساحتين الفلسطينية والعربية، كما لم يخلُ منها ما خص به ساحته الداخلية أيضا.
أما السبق فهو نجاحها عبر ما نجم عما تفضلت فأتاحته، ولشخص مثل هذا الليبرمان بالذات وما صرَّح به وتطرَّق إليه ووجَّهه من خلالها، في إثارة ضجة شملت الساحتين الفلسطينية والصهيونية على السواء، وكل فيهما تلقاها وفق موقعه وموقفه وفهمه للصراع، ومن ثم لقراءته للشخص ولأقواله، أو الزاوية التي شاء أن يتعامل منها مع ما صدر عنه.
إن قلنا سابقة، فهذا لا يعني استغرابنا إقدام مثل هذه الصحيفة على مثل ما أقدمت عليه، وإنما لمستجد في مدى فجاجة شكلها التطبيعي الذي فاجأتنا به، أما جوهرا فالأمر لا يعدو كونه مجرَّد جزئية في سياق عام لحالة أوسلوية تطبيعية مزمنة وشاملة وصلت مداها في متعدد أشكال التعاون الأمني بين أجهزة السلطة وأجهزة الاحتلال، الذي بلغ حد التعاون في ملاحقة المقاومين للاحتلال والتناوب في اعتقال النشطاء المعارضين له وللسلطة، ومنه ما حدث مؤخرا لستة من هؤلاء أفرجت عنهم السلطة بعد اعتقال فاعتقلهم الاحتلال…تعاون لدرجة ارتفاع مكانته المعلنة عند رئيس السلطة لمنزلة “المقدس”، وتصديق ليبرمان على هذا التقديس عبر تذكيره صاحبه، وفي المقابلة ذاتها مع الصحيفة ذاتها، بأنه “من دون التعاون الأمني معنا لن يكون قادرا على البقاء”.
أغلب رسائل نتنياهو كانت موجهة للفلسطينيين، بيد أن ضجيجها الذي جلبته كان أغلبه صهيونيّا. الفلسطينيون، منهم من صدمته سابقة التطبيع فاستنكرها وبدا وكأنما هو ليس إزاء جزئية فحسب من حالة تأتت من مسار تطبيعي شامل، أو ما أشرنا إليه آنفً، وآخرون جل ما همهم هو أن ليبرمان قد اقترف خطيئة لا تغتفر، وهي أنه قد تجاوز السلطة والفصائل، فخاطب الشعب الفلسطيني مباشرة! وكأنما هناك في الكيان الصهيوني من هَمَّه يوما التقيد بعدم الإقدام على مثل هذا التجاوز، لا سيما وأنهم يعلمون أن الموكل إليه الوحيد أمر مخاطبة السلطة في الكيان، قد بات حصرا اللواء الأمني يؤاف مردخاي، الذي يُدعى “منسق الأعمال في المناطق”، بمعنى الحاكم الفعلي للضفة، باعتباره المشرف على التنسيق الأمني مع السلطة، الذي نسق مقابلة ليبرمان مع الصحيفة وكان حاضرا إلى جانبه إبانها.
ما خلا هذا، كانت ردود فعل الفصائل المعهودة، التي، كالعادة، على اختلافها، لم تتجاوز موضوعيّا ولن تتجاوز، من حيث وزنها، المقولة المأثورة، أوسعتهم شتما وفروا بالإبل!
صخب ردود الأفعال الصهيونية انصب بمجمله على تباين حدة اللهجة الليبرمانية عند صاحبها، وهو في موقع المسؤولية عنها أيام كان خارجها في المعارضة. بمعنى أن الحدث لم ينظر إليه خارج كونه مادة صالحة للاستخدام المعتاد في بازارات المماحكات بين الأطراف السياسية المتنافسة ومزايداتها إعلاميّا، حيث تكثر هنا المقارنات بين مقاربات ليبرمان الفلسطينية مختلفة الحدة في الموقعين.
باختصار، هناك من استهجن انضباط ليبرمان المستجد الذي لم يعد مختلفا فيه عن نتنياهو أو الجنرال إيزنكوت. وباختصار أيضا، لا جديد في كل ما قاله ليبرمان، والفارق أن ما كان يقوله سابقا كان هو المضمر صهيونيّا، وما يقوله الآن هو المنسجم، أو قل المتهادن، مع الرسمي المعلن، الذي لا يتناقض مع ذاك المضمر وإنما يموهه، ويمكن تلخيصه في مسألتين:
موقفه الذي لا يختلف عن موقف نتنياهو من أبي مازن مع بعض المزايدة عليه، وتلويحه لحماس بالعصا والجزرة، حمل على الأول باعتباره عنده “غير شريك” موثوق، وهدد الثانية بأن “الحرب المقبلة ستكون مدمرة والأخيرة لهم” ولغزة، لكن، “إذا توقفوا عن التسلح وحفر الأنفاق فسنعطيهم ميناء”!
بالنسبة لحركة حماس، هناك من الصهاينة من تطوع فرد على ليبرمان نيابة عنها. صحيفة “يديعوت أحرونوت” سارعت فذكَّرته بأن مسألة الحسم التي يتوعَّدها به هي مستحيلة “مع منظمة تعمل في المنطقة الأكثر اكتظاظا في العالم، جاهزة للمواصلة ولإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل حتى يومها الأخير”.
أما فيما يتعلق بأبي مازن، فلفت موقع “واللا” نظر ليبرمان إلى أنه وإن كان “صحيحا أن أبا مازن لا يقاتل بقوة شديدة التحريض الفلسطيني ولا يعتزم ذلك، لكن هذا هو أبو مازن ذاته الذي يتحمَّل رجاله المسؤولية كل الوقت عن إحباط العمليات، وعن إخراج الجنود والمدنيين الإسرائيليين من مناطق السلطة بسلام واعتقال رجال حماس والجهاد الإسلامي”.
في الحالين، وعبر سابقة وسبق صحيفة “القدس” التطبيعية، ظل ليبرمان الأحدث، أو المُعَدَّل، هو ليبرمان النسخة الأصلية التي لا تتبدًّل، وإن تبدَّلت اللهجة بتبدل الموقع فكضرورة من ضرورات تبدله، لم يأتِ عبر صفحات “القدس” بجديد، ظل عند مقولته: إن “إسرائيل ليست بحاجة لأم الفحم”، الأمر الذي فسرته حتى الصهيونية عضوة الكنيست الصهيوني، رئيسة حزب “ميرتس” الصهيوني، زهافا غلؤون، بأنه لا شيء سوى “الترانسفير”.
الوطن العمانية