منذ أن بدأت في نبش المراجع والكتب المختلفة باللغتين العربية والإنجليزية بعد الانقلاب، وأنا أدرك جسامة مسؤولية الصحفي أو الكاتب.
وكأنني افتح صندوقا مات صاحبه.
أحداث مروعة وكوارث تختفي بين صفحات التاريخ المطمور تحت ركام من الأكاذيب التليفزيونية.
الجيش الذي صدعوك بانتصاراته الوهمية، ليس إلا قوات حماية للنظام الذي عينه عدوك.
الدويلة التي تعيش بها وتتجنس بجنسيتها، ليست إلا حظيرة صُنعت على عين عدوك.
الهوية التي تربيت عليها ومئات الأكاذيب التي صدقتها، ليست سوى ستار يخفي حقائق مروعة وعقودا من الخيانة.
وكأنك تعيش أحداث فيلم خيالي، تكتشف فيه نهايته أن من مثل دور والدك ليس إلا موظف يتقاضى راتبه من عدوك نظير خداعك.
قالها لي أحدهم خلال إحدى المحاولات المبكرة لتغيير موقفي من الانقلاب ومن العسكر، وانزلقت الكلمات من لسانه تكشف حقيقة المعركة، قال لي:
كيف كنت إعلامية بالتلفزيون وتهاجمين الجيش؟
بتعبير آخر، فإنه يجب عليكِ كإعلامية عملت بالتليفزيون الرسمي (أداة تغييب الوعي الأساسية قبل مدينة الإنتاج الإعلامي)، أن تقاتلي إعلاميا في جانب العسكر.
مشكلة الإعلامي الرسمي في دويلات العسكر، أنه يوضع تحت المجهر، تنتشر كلماته بفعل سحر الإعلام المزروع في العقول بأكثر مما تنتشر كلمات المفكرين الكبار (وهم المنهل الذي ينهل منه أمثالي من الصحفيين والإعلاميين).
ومنذ بداية الانقلاب، راقبتُ جيدا ملامح الحملة الإعلامية لتلميع شاويش الانقلاب وحددت ملامحها ووضعت خطة للتعامل معها، كان من بين محاورها فضح حقيقة المقبور عبد الناصر وخياناته للإسلام وتعاونه مع العدو الصهيوني، كانت الخطة الإعلامية التي ألهمني الله بها منذ البداية هي نسف أساسات دويلة العسكر منذ بداياتها.
كان عليّ أن أنبش كتابات كبار المفكرين (مثل الأستاذ محمد جلال كشك)، وأن أحولها إلى مواضيع عامة، وأن اطرح تلك الخيانات السوداء المرعبة فيها لنقاش مجتمعي على مواقع التواصل الاجتماعي.
وهي خيانات يعرفها من عاصروا تلك الحقبة السوداء، ولكنها لم تكن معروفة بشكل كامل لجماهير الإعلام البديل، اللهم إلا قلائل.
وأظن أن الله وفقني في ذلك أشد التوفيق، فلم يعد أحد يتحدث عن انقلاب يوليو 52 بوصفه ثورة، وأصبح تاريخ خيانات ضباط يوليو سلعة تُباع على أرصفة مواقع الإعلام البديل، على الرغم من محاولات غير موفقة لبعض الناصريين، لتثبيت السرد العسكري وتكرار المرويات الحكومية عن عهد عبد الناصر.
خلال شهور قليلة، بفضل مَنّ الله وحده كانت خيانات المقبور عبد الناصر قد انفضحت وكُشفت وتعرت وانفتحت بطن العسكر أمام الجميع.
وفي أثناء المرحلة الأولى من مراحل هدم دويلة العسكر إعلاميا، وقعت على اكتشاف مذهل من خلال القراءة والنبش في المراجع، اكتشفت زيف ما يُسمى بأكتوبر وحقيقة تخطيط كيسنجر وإدارته للحرب من البداية وخدعة سلاح البترول، وأن السادات لم يكن سوى موظف يتحرك بأوامر كيسنجر، وأن الحرب لم تكن سوى مسرحية تم التضحية فيها بالمخلصين الذين ظنوا أنهم يحاربون لتحرير الأرض، وأنها حتى انتهت بهزيمة مروعة أكبر من هزيمة 67، أُسِرَ فيها أكثر من ثمانية آلاف جندي وضابط، فكان عليّ مجددا أن اطرح كل هذا للجميع في مقال كتبته على موقع نون النسوة بعنوان (حرب أكتوبر .. النصر الذي لم يأت) بتاريخ 4 أكتوبر 2013 أي بعد الانقلاب بشهرين.
في المُقابل، شُنَّتْ عليّ حربٌ شعواء، من جانب الكهنة القدامى لمعابد سايكس بيكو من الليبراليين الممتعضين من هدم أساسات دويلة العسكر، حتى كتب أحدهم أن ما أفعله إهالة للتراب على تاريخ مجيد حسب قوله!!
بل ولستُ أكشف سرا حين أقول إن جانبا كبيرا ممن عارضوا ما أكتب (وهو موثق بالمراجع)، كانوا يعارضون ما أكتب لأنهم يريدون ثورة تحت السقف، ثورة تلتزم بحدود سايكس بيكو التي تربوا عليها.
وكأنه دين بديل حل في نفوس البعض محل الإسلام.
وفي المقابل، لا تقدم القنوات التي تعارض الانقلاب إلا معارضة تحت السقف، وتتبنى نموذج الثورة الكيوت التي لا تتعرض للمؤسسات، ولا تفضح تاريخها ولا أصول نشأتها على يد العدو.
بعض هؤلاء ربما لا يستطيعون رؤية انهيار المنطقة وتدشين عصر جديد، تُقسم فيه مستعمرات سايكس بيكو إلى علب تونة صغيرة، وربما يتعامون عن هذا كله رغبة في عدم تحمل تكلفة مواجهة سيناريو كهذا.
وعلى الجانب الآخر، يقف حتى الإعلام البديل مكشرا عن أسنانه لكل من يطرح رؤى حقيقية تكشف حقيقة الوهم الذي يعيشه المسلمون، بعد أن حبسوهم في حظائر نصبوا حولها أسلاكا شائكة، وعينوا عليها غفرا يرتدون الأزياء العسكرية.
فحتى في العالم الافتراضي لا يسمحون لك بتجاوز السقف. عندما بدأت الحديث عن الهوية وكتبت منشورا على صفحتي العامة بعنوان (الحفل انتهى يا أرامل سايكس بيكو)، قام الفيسبوك بحذفه.
ثم أغلق الفيسبوك صفحتي بعد ذلك لحديثي المتكرر عن الهوية الإسلامية وعن حملة مقاطعة النصارى اقتصاديا، التي إن استمرت ونجحت، فمن الممكن ان تخل بتوازن سايكس بيكو.
نحن بحاجة حقيقية لنُوقظ المسلمين من ذلك العالم الافتراضي الذي يعيشون فيه منذ قرنين من الزمن.
بحاجة إلى صناعة وسائل إعلام بديلة تنويرية، تكشف الزيف وتبدد دخان التضليل، وتصنع تغييرا حقيقيا في العالم الافتراضي، الذي يعيشه المسلمون ويسيطر عليه إعلام الأخ الأكبر.