فقراء
مصر هم أكبر شاهد على فشل النظام العسكري الذي يحكم البلاد منذ أكثر من ستين عاما، فمشكلتهم تتفاقم منذ وصل الضباط لكرسي الحكم، وذلك في إطار فشلهم الواضح في إدارة الدولة وبالأخص إدارتها الاقتصادية، فضلا عن النهب المنظم الذي وصل لمستويات مخيفة، ولهذا فقد اتسعت مساحات
الفقر في عهدهم حتى عمت المجتمع على مدى العقود وأصبحت من أهم معالم مصر.
وهنا لا بد أن نؤكد أن انتشار الفقر واتساع دائرته هو سبب موجب بذاته لتغيير النظام حتى لو كان منتخبا، فليس هناك مبرر لإثارة الخلاف حول كونه نظاما شرعيا أم مغتصبا، وليس هناك داع للحديث حول كوننا حركة معارضة من داخل النظام أم حركة ثورة تسعى لإقصاء النظام بشكل كامل، فأولوية الفقر التي تجتاح مجتمعنا، وأنات الجوعى التي تضج منها مسامعنا، يجب أن توحد صفوفنا وتحشد همنا؛ نحو هم واحد هو إنقاذ الغالبية الساحقة من شعبنا التي تتأزم حياتها يوما بعد يوم وتتضور جوعا على مدى الساعة.
فالتنمية ومكافحة الفقر من المهام الرئيسية للحكم، والتي توجد معها شرعيته، فإذا أخل بها فقد أخل بأهم واجباته وتخلى عن موجب رعايته سقطت طاعته ووجبت مكافحته لإقامة من هو أولى بالحكم منه ومن ثمّ واجباته.
والأخطر من ذلك، وأنت تدقق في إجراءات ومسالك النظام العسكري، تجده يسعى لنشر الفقر وإذلال الأجيال جيلا بعد جيل، فسياسات الإفقار وسياسات الخصخصة، وتتبع خطوات صندوق النقد الدولي، وإلغاء الدعم، إضافة لعمليات النزح المنظم للثروات وتبديد الموارد الاستراتيجية، أدت وتؤدي إلى تدمير كل مقومات التنمية، وتبدد كل أمل في مستقبل يحفظ الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.
وفي ضوء ذلك، يصبح من غير المبرر أن يستنكر البعض على الفقراء المطالبة بحقوقهم والانتفاض لكرامة أبنائهم، سواء كان ذلك الاستنكار مبنيا على أسس سياسية أو أسس دينية، فكلاهما جعل الدفاع عن الكرامة الإنسانية - ولا سيما في شقها الغذائي - واجبا لا يجوز التنازل عنه، بل إن الشريعة كانت في هذا أسبق وأكثر حسما.
كما أنه من غير اللائق أن تظهر النخبة هذا القدر من اللامبالاة بمعاناة شعبها والتي جعلت أحدهم يحرق نفسه ويفقد حياته؛ ملقيا المسؤولية بكاملها على عاتق النظام العسكري، فقد حرق نفسه في شارع "الجيش" وأمام أحد "نوادي القوات المسلحة"، كما جعلت البعض الآخر يقف في الأسواق والطرقات منتقدا النظام ورئيسه بشجاعة نادرة، مستهينا بالآلة القمعية وبكل المحاذير والخطوط الحمراء الموضوعة على هذا الطريق.
كما أن الدفاع عن الفقراء واجب ثوري لا يقل أهمية عن الواجبات الثورية الأخرى، لأن جوهر الثورة هو انتزاع حقوق المظلومين والمحرومين والمهمشين والانتصار للفقراء والكادحين، ولا سيما إذا كانت هذه الحقوق تتعلق بالغالبية الساحقة من الشعب.
أما عن أسباب الفقر في مصر، والتي تبرر للفقراء أن يتعلقوا برقاب حكامهم، فهي ترجع لطبيعة النظام السياسي ذاته، الذي فشل في توفير الاستقرار والأمن اللازم للنمو الاقتصادي، كما يرجع لطبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يتيح للقلة أن تحتكر الثروة، فضلا عن تنظيم وتقنين عمليات النهب التي أرهقت موارد الدولة وبددت معظم الثروات. وفي ضوء ذلك لا تسأل عن عدالة التوزيع؛ لأنك لن تجد غير الفوارق مجسدة بشكل بشع، فالأغنياء الذين لا يزيدون عن 10% من الشعب يحتكرون أكثر من 80% من الثروة، وغالبية الشعب الساحقة 90% لا يمتكون أكثر من 20% من الثروة. وتأتي في هذا السياق كل الإجراءات الاقتصادية التي تثقل كاهل المواطن وتضيق من سبل العيش أمامه، سواء بإلغاء الدعم الذي يصيب الأسعار بالجنون، كما نرى في مصر الآن، أو في ملاحقة الجمعيات الأهلية التي كانت تقوم ببعض الواجبات تجاه الفقراء والمحتاجين، بل إنك ترى الإذلال الحقيقي مجسدا في تعطيل حق الفقراء الدستوري في العلاج المجاني.
وعلى هذا أصبحت خريطة الفقر في مصر على درجة عالية من المأساوية، ففي الصعيد يعاني أكثر من 60% من الفقر الشديد، ربعهم لا يجدون قوت يومهم. ومن بين ألف قرية هي الأشد فقرا في مصر، تقع 762 قرية في محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج وغيرها، وفي الوجه البحري يعاني أكثر من 20% من الفقر الشديد، خمسهم تقريبا لا يكاد يجد قوت يومه.
وفي ضوء ذلك، فإن أكثر من 85% من سكان الريف يعيشون تحت خط الفقر، و42% من الحضر مثلهم، كما أن ما يقرب من 60% من فقراء مصر لا يأكلون اللحوم والأسماك إلا حسب الظروف، و35% منهم لا يأكلون الفواكه لعدم القدرة على شرائها، ويكتفي 58% منهم بوجبتين فقط، بينما يعتمد أكثر من 60% منهم على الفول والعدس طعاما رئيسيا.
هذه مصر الدولة الغنية التي أذلوا أهلها بالفقر وعاش غالبية شعبها في ضنك مستمر، وكلما تطلع للراحة باغتته الحكومات المتعاقبة بضرورة شد الأحزمة والربط على البطون في الوقت الذي تشهد فيه بنوك العالم مليارات مصر المنهوبة والتي تكفي لأن يعيشوا مثل أغنى شعوب العالم وتشهد بلادهم أكبر عدد من المليارديرات في العالم العربي.