كثير من القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل يبدأون بالتعبير عن مواقف حمائمية بمجرد تركهم الخدمة، والسبب لا يقتصر على تغير في القناعات.
قبل أربعة شهور أثار عضو الكنيست الإسرائيلي دافيد بيتان عاصفة عندما اتهم القادة العسكريين والأمنيين في إسرائيل بالانتماء إلى "اليسار".
رغم أن بيتان مكلف داخل الكنيست بضمان التزام أعضاء التحالف الحاكم بالقرارات التي تتخذها قيادته، ويعتبر من أكثر أعضاء حزب الليكود الحاكم الذي يترأسه بنجامين نتنياهو صخبا، إلا أنه يعتبر حديث عهد بالسياسة القومية، ولعله لذلك أراد أن يستثير إعجاب الموالين للحزب والداعمين له.
بالرغم مما أثاره تصريحه إلا أن كلماته كانت صدى لمشاعر يعبر عنها كثيرون ممن ينتسبون إلى اليمين الإسرائيلي، والذين يتساءلون ماذا دهى الموساد والجيش حتى يجعل القيادات فيهما تعبر عن آراء معتدلة حينما يتعلق الأمر بسياسة إسرائيل الخارجية والأمنية.
في الظاهر، يبدو الأمر كما لو كان حالة من التناقض البين، حيث أن الفكرة السائدة في أذهان الناس حول ضباط الجيش والأجهزة الأمنية أنهم مسعرو حروب، فمهنتهم هي القتال وتحريض من يلونهم على الاندفاع في ساحات المعارك، وبناء عليه، لابد أنهم يعشقون الحرب.
إلا أن مثل هذا الانطباع خاطئ تماماً، على الأقل فيما يتعلق بإسرائيل، رغم أنه ينطبق بنفس الدرجة على بلدان أخرى أيضاً.
خط الصدع
مثل كثير من الأحداث في تاريخ إسرائيل، جاءت نقطة التحول المفصلية ما بعد حزيران / يونيو عام 1967 على إثر حرب الأيام الستة التي استولت خلالها إسرائيل على الضفة الغربية من الأردن وعلى غزة من مصر وعلى مرتفعات الجولان من سوريا.
حتى تلك اللحظة، كان يمكن وصف إسرائيل بأنها مجتمع متجانس منسجم بعضه مع بعض، كان الناس فيها يعتقدون بأن لديهم قضية عادلة الأمر الذي حفزهم على الاصطفاف حول الحكومة وتأييد سياساتها دون أن يراودهم أدنى شك في صحة ما كانت تقوم به.
إلا أن الاستيلاء على كل هذه الأراضي الإضافية، بما كان يعيش فيها من سكان أغلبهم من الفلسطينيين، حول إسرائيل إلى قوة محتلة وأدى إلى انقسام المجتمع الإسرائيلي سياسيا وأيديولوجيا. ما لبثت هذه التصدعات المبدئية أن انتشرت من المجتمع المدني والمجتمع السياسي لتطال المؤسسة الأمنية بكافة مكوناتها.
كان الجنرال ماتي بيليد أول سنونو. فبعد سنوات طويلة من تأييد تبني إجراءات قاسية في التعامل مع الفلسطينيين، تحول في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى ناشط مدافع عن السلام وأصبح عضواً في الكنيست ديدنه المطالبة بالتوصل إلى تسوية سلمية بين إسرائيل والدول العربية.
كان بيليد من بين أوائل الإسرائيليين الذين قابلوا مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية بما في ذلك ياسر عرفات، وذلك حينما كانت مثل هذه اللقاءات محظورة في إسرائيل ويعتبر من يقوم بها منتهكا لأحكام القانون. فيما بعد، سار المزيد من الجنرالات والقادة الأمنيين على خطى بيليد، وبادر المئات منهم إلى تكوين كيان فريد من نوعه أطلقوا عليه اسم "مجلس السلام والأمن".
الأصوات الناقدة ... خارج إطار الوظيفة
ما لبثت هذه التصدعات أن اتسعت مع إحكام نتنياهو لقبضته على السلطة خلال السنوات الأخيرة الماضية، وخاصة حيث بات واضحا بلا مجال معه للشك أنه رغم خطابه وتصريحاته المعلنة حول التزامه بحل الدولتين، إلا أن نيته الحقيقية هي الفرار من مفاوضات السلام وتعزيز قبضة إسرائيل على الضفة الغربية.
هناك لحظتان لا تنسيان تجسدان هذه الهوة المتنامية بين موقف الحكومة وموقف علية القوم في المؤسسة الأمنية. كانت اللحظة الأولى هي مناسبة بث فيلم وثائقي عنوانه "حراس البوابة" في عام 2012.
يعرض الفيلم مقابلات مع ستة رؤساء سابقين للشين بيت، جهاز الأمن الداخلي الذي تناط به مهمة مكافحة الإرهاب والتحقيقات المتعلقة به، والذي يقوم فعليا بالتحكم بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي بالحياة اليومية للفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال.
انتقد خمسة من ستة من رؤساء الجهاز الأمني سلطات الاحتلال والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بسبب قصر نظر سياساتها التي انتهجت بناء المستوطنات اليهودية بما يقوض كل فرص السلام. كانت آراؤهم التي عبروا عنها في الفيلم الوثائقي محيرة للألباب.
إلا أن السؤال الذي لم يطرحه مخرج الفيلم عليهم كان "أين كنتم؟ ولماذا حينما كنتم على رأس عملكم لم تنصحوا بالسياسة التي تدعون إليها الآن بعد أن غادرتم مواقعكم، ولم لم تسعوا إلى تنفيذها عندما كنتم تملكون مقاليد الأمور؟"
وكانت اللحظة الثانية، وهي الأهم، هي تلك المناسبة التي عبر فيها رئيس جهاز الموساد مائير داغان ورئيس هيئة الأركان الجنرال غابي أشكنازي عن معارضتهما في الفترة من 2009 إلى 2010 جهود نتنياهو ووزير دفاعه في ذلك الوقت إيهود باراك لافتعال أزمة كان يمكن أن تؤدي إلى اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران.
وكان نتنياهو وباراك قد طلبا من قيادات الأجهزة الأمنية – في اجتماع غير رسمي – إلى حشد الجيش والدعوة إلى التعبئة للإيحاء لإيران بأنها على وشك التعرض لهجوم وشيك، وذلك أملاً في إثارتها وحملها على القيام بتحركات استباقية. إلا أن داغان وأشكنازي شعرا بأن الخطة الحقيقية كانت تستهدف إطلاق سلسلة من التفاعلات المتعاقبة لجر الولايات المتحدة الأمريكية وحملها على شن هجوم على المواقع النووية الإيرانية.
القوى الظلامية في الخارج وأنظمة التسلح في الداخل
التفسير البسيط والمباشر لظاهرة تموضع القيادات الأمنية والعسكرية في مواقف معتدلة هو أن المقاتلين يعرفون أكثر من غيرهم ومن خلال تجارب يخوضونها بأنفسهم ثمن وويلات الحروب، ولذلك فهم يسعون إلى تجنب هذه الويلات ما وسعهم. ومع ذلك لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب.
لكن طرأ تحول على المجتمع الإسرائيلي على مدى العقد الماضي تحت زعامة نتنياهو، ومن ذلك تآكل القيم الديمقراطية الغربية ومبادئ حقوق الإنسان التي طالما تفاخرت إسرائيل بالالتزام بها.
لقد اكتسحت البلاد أفكار التيار اليميني التي تمزج بين القومية والتدين، ولا تكف عن الحديث عن "العدو في الداخل"، والتي لا تتسامح مع المخالفين ومع أصوات الأقليات، وتسعى باستمرار إلى السيطرة على وسائل الإعلام وإسكات وقمع منظمات المجتمع المدني، وها هي الآن تهدد بالتسلل والانتشار داخل المؤسسة العسكرية أيضاً.
يعلم رؤساء الأجهزة الأمنية أن أقوى وأهم الأركان التي تستند إليها مهمتهم كحماة للأمن الإسرائيلي هي التعاون الذي يحظون به من قبل نظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، ويعلمون كذلك أنه إذا ما تسللت القوى الظلامية وانتشرت داخل المؤسسة الأمنية فإن ذلك سيعسر مهمتهم ويزيدها صعوبة.
دولياً، سيؤدي تآكل القيم الديمقراطية داخل إسرائيل إلى تحول إسرائيل وجيشها في نظر الآخرين إلى قوى ظلامية آخذة في الابتعاد شيئاً فشيئاً عن السلوك الغربي المشترك الذي طالما تميزت به هذه الدولة، وهذا من شأنه أن يقوض التعاون بين الأجهزة الأمنية في إسرائيل ونظرائها في الغرب.
ولا يستبعد أن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى أن يعمد الغرب – وبشكل خاص الولايات المتحدة الأمريكية، أهم الدول الداعمة لإسرائيل – إلى تقليص التعاون مع إسرائيل ووقف تزويدها بأنظمة الأسلحة المتقدمة.
حفنة من العصابات
محلياً، لو أن أفكار التيار اليميني المسيسة هيمنت على روح قوات الدفاع في إسرائيل ووكالات المخابرات المختلفة فيها، فعاجلاً أم آجلاً سوف تتحول هذه الأجهزة من كيانات على درجة عالية من المهنية والانضباط إلى "حفنة من العصابات" كما حذر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعالون.
ولذلك يعتبر رئيس هيئة الأركان الحالي الجنرال غادي آيزينكوت حارس بوابة آخر يسعى لتجنيب البلاد الكوارث التي يمكن أن تسببها الرياح الشريرة التي تهب عليها من كل حدب وصوب. وهو في ذلك أشبه ما يكون بالغلام الهولندي الصغير الذي يقف على رأس السد محاولاً منع الطوفان.
تجده يدير معركة حماية خلفية يسعى من خلالها إلى منع الأفكار القومية الدينية من التسلل إلى الجيش الإسرائيلي وغزوه في عقر داره مطيحة بقيمه وقواعده. لقد سعى إلى تحقيق ذلك من خلال تعليم وتثقيف ووعظ الضباط الذين يلونه وكذلك الجنود المحترفين حاثاً إياهم على التمسك بقوانين الجيش وبأنظمته وبقواعد الاشتباك وفتح النيران في ساحات الوغى.
في غياب مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية، تجده أيضاً يبذل قصارى جهده للتقليل من الاحتكاك بين الجيش والفلسطينيين والتقليل قدر الإمكان من الإصابات في الجانبين. وهو يعلم جيداً، تماماً كما كان حال أسلافه، أن إسرائيل بحاجة إلى السلام من أجل أمنها وأنها لن تتمكن إلى الأبد من الاعتماد على سيفها.
إلا أن المشكلة التي تواجهه هي نفس المشكلة التي واجهت أسلافه من قبل، وهي أن نتنياهو وتحالفه اليميني لا ينصتون إليهم، بل يعمدون بدلاً من ذلك إلى التآمر عليهم لاستبدالهم بمن يصفونه "بواحد منا".
كان قادة الجيش في يوم من الأيام رمزاً للوسطية والإجماع في إسرائيل، إلا أنهم باتوا تحت قيادة نتنياهو مقزمين لا يؤبه لهم، ولا يعيرهم عامة الناس كثيراً من الاهتمام، وفقدوا كثيراً من نفوذهم. وكما هو ديدنه في التعامل مع السياسة والإعلام، يسعى نتنياهو إلى بسط نفوذه على القطاع العسكري والأمني ودمغه بألوان توجهاته السياسية.
(عن صحيفة "ميدل إيست آي)