على الرغم من التباين الأمريكي ـ الروسي حيال آليات تطبيق الهدنة العسكرية ومستلزماتها، إلا أن الأنظار تترقب اليوم التالي لتنفيذ الاتفاق المرتبط بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة خصوصا مدينة حلب، والمقصود تطبيق الشق الثاني من الاتفاق المتعلق بتمييز الفصائل المعتدلة عن تلك الإرهابية وفق القاموس الأممي، وبالتالي بدء تنفيذ الضربات ضد "جبهة
فتح الشام".
الموافقة الأمريكية على وضع "جبهة فتح الشام" النصرة سابقا في مرمى النيران الأمريكية ـ الروسية المشتركة ليس بالتطور العادي، خصوصا أنه يأتي بعد أشهر من رفض الولايات المتحدة توجيه ضربات قوية للجبهة بسبب تداخل وجودها على الأرض مع فصائل أخرى تعتبر معتدلة أولا، وعلى أمل أن تنزع الجبهة عن نفسها عباءة القاعدة بشكل حقيقي ثانيا.
من شأن هذا الاتفاق إن طبق عمليا أن يغير المشهد الميداني في الشمال الغربي لسوريا، ويعيد بناء تحالفات عسكرية جديدة ستؤثر سلبا على فصائل المعارضة في حلب وإدلب وحماة، وهي المناطق الثلاث التي تحظى فيها المعارضة المسلحة بثقل عسكري.
وستجد الفصائل الصغيرة والمتوسطة والكبيرة بما فيها حركة أحرار الشام نفسها بين سندان الابتعاد عن الجبهة مع ما يعنيه ذلك من انهيار "جيش الفتح" وخسارة فصيل عسكري في غاية القوة سيؤثر سلبا على مسار المعارك، وبين مطرقة الوقوف إلى جانب الجبهة مع ما يعنيه ذلك من تعرض هذه الفصائل للصواريخ الأمريكية ـ الروسية.
تحاول الولايات المتحدة منذ نحو عامين تشكيل ما يسمى قوة سورية معارضة معتدلة هدفها الرئيس قتال التنظيمات المتشددة كتنظيم الدولة في المرحلة الأولى والتنظيمات المرتبطة بالقاعدة في المرحلة الثانية، في خطوة تشبه تجربة "صحوات
العراق".
وبدأت هذه العملية مع دعم أمريكي لـ "جبهة ثوار
سوريا" بقيادة جمال معروف، ثم حركة حزم، ثم الفرقة ثلاثين، وجميع هذه القوى تم تدميرها على يد "جبهة فتح الشام".
لكن مفهوم المعارضة المعتدلة في القاموس الأمريكي ما يزال غامضا، حيث كان يقتصر في البداية على من يعادي النظام السوري، أما اليوم فقد أصبح مشوشا مع اتساع سيطرة تنظيم الدولة، وبدت الإدارة الأميركية أكثر خوفا من الفصائل الإسلامية الجهادية، مع تراجع اهتمام إدارة أوباما بإسقاط النظام.
تسعى واشنطن للبحث عن معارضة معتدلة تشابه في أهدافها وقوتها "وحدات حماية الشعب التركي"، وتشكل بديلا عن القوة الإسلامية، بما فيها "أحرار الشام" التي تلقى دعما إقليميا واضحا.
وقد زادت الحاجة الأمريكية إلى مثل هذه القوة بعد حصول تطورات ثلاث:
1ـ كشف "وحدات الحماية الكردية" عن أهدافها في تشكيل كانتون كردي في الشمال يخالف المصالح الأمريكية ومصالح دول المنطقة جميعها.
2ـ كشفت هدنة شباط/ فبراير الماضي صعوبة الفصل بين فصائل المعارضة و"جبهة فتح الشام".
3ـ توصل الإدارة الأمريكية إلى قناعة مفادها أن إطلاق مفاوضات سياسية مستدامة لا تستقيم مع هيمنة القوى الإسلامية على المشهد العسكري في صفوف المعارضة.
وهذه الأسباب هي التي تفسر قبول واشنطن بوضع "جبهة فتح الشام" في مرمى النيران الأمريكية ـ الروسية، فالولايات المتحدة تريد الحصول على إنجاز سريع قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة في ملفين هامين، هما: الملف الإنساني وما يشمله من وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وملف المفاوضات السياسية، بغض النظر إن كانت شروط التسوية متحققة أم لا.
من شأن هذه القوة إن توسعت وقويت شوكتها أن تكون بمثابة النواة الجاذبة للقوى الأخرى وتحل تدريجيا محل هيمنة "جبهة فتح الشام"، وليس صدفة أن تعتمد تركيا ـ وبضغط أمريكي ـ على "الجيش الحر" فقط في السيطرة على جرابلس ومحيطها، وليس صدفة أن يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الجيش الحر بعد صمت قارب أكثر العامين، وليس صدفا أيضا أن يعيد الحر ترتيب صفوفه كما يحدث الآن مع الفرقة 13" و"الفرقة الشمالية" و"تجمع صقور الجبل" الذين اندمجوا يتجهون نحو الاندماج في تشكيل واحد باسم "جيش إدلب الحر".
غير أن المشكلة التي تواجه المقاربة الأمريكية هذه، أن الواقع السوري يختلف كثيرا عن الواقع العراقي، وبالتالي يبدو من المستحيل نقل تجربة
الصحوات في العراق إلى سوريا، ففي العراق كان الواقع الميداني منقسما بين طرفين: القوات الأمريكية وحلفاءها من الأكراد من جهة، والقاعدة وعشائر عربية والمقاومة من بقايا الجيش من جهة ثانية.
أما في سوريا، فالصراع متعدد الأطراف والقوى الفاعلة كثيرة، فضلا عن أن الفصائل الإسلامية في سوريا ليست على نسق واحد، وما يصح في العراق يمكن تطبيقه على تنظيم الدولة في سوريا فقط، ولا يصح على غيره من الفصائل بما فيه "جبهة فتح الشام" على الأقل في هذه المرحلة، بسبب طبيعة الواقع الميداني في البلاد وبسبب طبيعة الأطراف المتقاتلة.
كما أن تشكيل صحوات سورية عسكرية تتطلب سندا عسكريا قويا يمنعها من الانهيار كما هو الحال في العراق حيث الجيش الأمريكي كان يشكل ذلك السند، وافتقار هذا الوضع في سوريا هو الذي حال دون نجاح التجربة الأمريكية خلال السنتين الماضيتين.