كتاب عربي 21

ابن خلدون ... ظلم الجباية وجباية الظلم (3)

1300x600
من المهم ونحن نختتم هذه السلسلة الخلدونية حول الجباية والفساد أن نتحدث في خاتمة تلك المقالات عن الجباية والظلم، فالترف نوع من الظلم، والجباية نوع من الظلم، والفساد والاستبداد توأمان وكلاهما ظلم بيّن، وفي هذا المقام نستطيع أن نؤكد أن الظلم مؤذن بخراب العمران كقانون ماض لا يتخلف، فإن أموال الجباية والضرائب والمكوس والتفنن فيها إنما تعبّر عن أموال محصلة بوجوه خبيثة لمصلحة السلطان وبطانته وسدنته وهذا ليس فقط ظلما وعدوانا ولكنه تخريب لعموم البلدان والإنسان والعمران. يقول الأسدي، أحد تلامذة ابن خلدون: "هذه الحوادث والتأشيرات إهمال ما يؤخذ من المال على وجهه، وتجديد أسماء الأموال التي تؤخذ على غير وجهها.. وفي الظاهر أن هذه الأموال المحصلة بهذه الوجوه الخبيثة مصالح للسلطان ومعونة للأعوان، وفي الباطن إنما هي فساد وظلم، وتخريب، وفسوق وعصيان، وعوايد رديئة، وقد ظهرت واستمرت، وصارت من القواعد لتخريب البلدان".

ومن مشاهد هذا الظلم الخطيرة أن يقوم السلطان أو صاحب السلطة باحتكار كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي أو التحكم في مفاصله، ففي عبارة بليغة يقول ابن خلدون: "تجارة السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية"، ذلك أن قيام أهل السلطة بعمليات احتكار وتغول على مساحات النشاط الاقتصادي إنما يشكل حالة كبرى من حالات الجباية والعدوان على معاش الناس وحياتهم ومعاملاتهم وكل شؤونهم الاقتصادية التي تقوم بالحركة الدائبة والمطلوبة بالمال والأعمال، ولكن دخول السلطان على الخط في هذا المقام خاصة حينما يكون من العسكر إنما يشكل خطراً كبيراً على طبيعة هذا النشاط الاقتصادي وعلى حركته وعلى مآلاته وعسكرة المجال العام في الحياة والمجتمع.

شكل من أشكال الجباية التي يقوم بها أهل السلطة وفي سدة المشهد العسكر، فيتحكمون في المناشط الاقتصادية فيعتبرون مالكاً أكبر، أو مقاولاً كبيراً يتحكم في توزيع الأعمال وفقاً لتحالف المصالح وتوافقها، وضمن "حالة زبائنية" تشتري الولاء مقابل الأعمال والمنافع وبعض المصالح، وهي عملية في أصلها وفي مقصدها تعبّر عن حالة فساد كبرى تؤسس لشبكية الفساد والاستبداد، فحينما نقول إن الفساد والاستبداد توأمان وأن أحدهما ينادي على الآخر فإننا لا نبالغ في هذا المقام ولا نتزيد، وإنما نعبّر عن تحالف جهنمي ما بين رجال السلطة ورجال المال، ويفرز ذلك أخطر ظاهرة في الفساد السياسي وهي الظاهرة التي تتعلق بالمال السياسي الذي يُوظف لصالح تحالفات دنيئة وخطيرة تشكل المصالح الأنانية والآنية فيها صلب ذلك التحالف، وتشكل تحالفا غير بريء ، نعبّر عنه بـ"زواج متعة" لا يُنتج في عالم الاقتصاد إلا حالة لقيطة تؤدي إلى الإضرار بالوطن ومصالحه والإضرار بمعاش العباد ومصالح البلاد.

وفي هذا المقام، فإن هذا السلوك الاقتصادي يعبّر عن خطاب خطير برز بشكل مبكر مع المجلس العسكري الفائت حينما عبّر عنه اللواء محمود نصر قائلاً إن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي وأنه سيدافع عن اقتصاده وقد أسماه بكلمة رمزية كاشفة "عرقُنا"، وهذا كله لا يسوّغ فقط مسألة الاحتكار ولكنه يسوّغ بانحسار دوران المال في فئة بعينها وهو أمر يحذر منه كل نشاط "كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم"، والتعامل في البيزنس والاتجار، إذا يعبّر ذلك عن حالة أخطر ما يكون، إذ لا يشكل ذلك مضايقة وتضييق لانسياب النشاط الاقتصادي، بل كذلك يحدد الأسعار على هواه ويقوم بإرغام المستهلكين على شراء منتوجاته وفق ما يحدده مزاجه من أثمان وأسعار. إنها إشارة واضحة من ابن خلدون لمؤسسات السلطة، وهي في هذا المقام المؤسسة العسكرية التي تحتكر كل نشاط اقتصادي وتحركه لمصالحها بغض النظر عن مردودها في عمران الاقتصاد وقدرات العباد والبلاد.

دليلنا على ذلك، الامبراطورية الاقتصادية للمؤسسة العسكرية التي صارت الساق الثانية لعملية استبداد كبرى تمارسها تلك المؤسسة لكل ما من شأنه أن يعظّم مكاسبها وجبايتها أو يعظّم تلك المصالح التي تتعلق بخدمته سلطة ومكانة وأذرعته من سدنته، في توزيع فظّ للمغانم على حساب عموم الناس والمواطنين، وعلى حساب قوانين النشاط الاقتصادي التي تتعلق بانسيابه ودورانه كطاقة فاعلة في الدولة والمجتمع الذي يشكل أساساً لبناء الكيان وإقامة العمران، بين تلك الحالة الترفية والحالة الجبائية والحالة الفسادية والحالة الاحتكارية تولد شبكات الظلم والاستبداد التي تغطي عموم البلاد والعباد.

وفي النهاية يكون الخراب ويكون انهيار الدولة أو على حدّ تعبير المنقلب "شبه الدولة" ضمن سياسات خائبة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، سياسات على حد تشخيص الأسدي اتسمت بثلاث خصال؛ الأولى- سوء التدبير مع نقص القوة والإمكان، والثانية- نقص سنة العدل وسوء التصريف، والثالثة- الأخذ في جانب التقصير والنقصان، وغالبًا يبدو هؤلاء ممن يمارسون ذلك الفساد، يتعاملون مع الأمور بسلوك فساد وإفساد، "فيستخرجون الأموال بالظلم والطغيان، ويرضون ببعضها مَن له في الدولة كلام وإمكان، وبما يحملونه من الهدايا والأموال يرشون بها الأعوان، فيسعى لهم، ويلبسون التشاريف.. بين يدي ..الأمير والسلطان، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وإمكان وسطوة وأعوان.. وإقطاعات ونعم وديوان، وقويت بذلك نفسه وازدرى بقول فلان وفلان"، فكان ذلك تمكينا لبيئة الظلم ووسط الاستبداد التي تشكل محضنًا لعمليات الفساد. 

وتصير شبكة من سوء الأحوال والظلم والمظالم والغفلة والمخاوف والمفاسد وسوء التدبير والتصرف والسياسة، والإهمال والتقصير، "من وقوع الوباء ثم ما أعقبه من غلاء وجوع ونقص في الثمرات ونقص الأموال من أصولها، وعظمت مصائب الحوادث من كثرة المظالم ووقعت موجبات الخوف بعد الأمان، وطالت مدة البأس والغلاء، وعظمت الشدة من الجهد والبلاء، وانكشفت أحوال كثير من الناس في كثير من البلدان، ومع ذلك لم يحدث الارتداع ولا الرجوع عن الطغيان من أقوام هم الأصول في إنشاء أنواع الظلم والعدوان.. لأن الغفلة قد تحكمت، والمفاسد قد استحكمت، والمخاوف قد ازدحمت، وإنما ذلك لضعف الأمر ولنقص الحكم وفساد السياسة وسوء التدبير وظهور أسباب الأذى عن تعمد؛ لكثرة الإهمال وعدم التفقد ووجود التقصير".
 
يساند ذلك سياسات تشريعية ظالمة مستخفة بمعاش الناس، من برلمان زائف وقوانين جائرة تُضيّقُ على العباد وتُحكم الخناق لحالة فقر وافقار متعمد، واعتقالات ومطاردات سياسية، واستهانة بالنفوس واستخفاف بالأرواح فيكون بذلك "الظلم الفاجر" هو قانون هذه الحالة الانقلابية والاستبدادية، وتصير تلك المقولة واقعاً متعيّناً يكابده كل أحد، "الظلم مؤذن بخراب العمران".