"قال نتنياهو إنه تلقى رسالة من مصر مفادها أن كثيرين في مصر أَسْمعوا أصواتا مغايرة وعبروا عن احترامهم لفوز اللاعب الإسرائيلي، لا سيّما بعدما مدّ اللاعب الإسرائيلي يده لمصافحة اللاعب المصري. وأشار نتنياهو إلى أن الحدث الرياضي تحول إلى حدث سياسي هام يدل على أن العلاقات بين الإسرائيليين والمصريين تشهد تغييرا، والدليل أن هنالك أصواتا مختلفة لم نتعود سماعها في السابق صدرت من مصر، ما معناه أن هنالك في مصر من يحترم الإسرائيليين ويهمه تطبيع العلاقات".
الكلام المذكور من نص تغطية أحد المواقع "الإسرائيلية" المكتوبة باللغة العربية، وفي نهايته ذكر بخبث تساؤله عن مصدر الرسالة في مصر وذكر نقلا عن أحدهم: هل القصد أن السيسي اتصل ليعتذر عما صدر من اللاعب المصري؟ ومثل هذا التساؤل لم يعد مستغربا أو مستدعيا للنفي القاطع، فالنظام الحالي لم يترك فرصة لإثبات الود أو رغبته في "السلام الدافئ" مع العدو الصهيوني، ولم يترك فرصة للاحتقار والشراسة مع إخواننا وأهلنا في فلسطين، وهذا طبع في النظم القابضة على السلطات بالاستيلاء القسري، أنهم يسترضون مراكز القوى الدولية لتحقيق القبول الرسمي دون الاكتراث للإرادة الشعبية المحكومة بالبطش والجبر.
الإشكال الذي كشفت عنه مباراة الجودو بيّن ضعف المناعة الشعبية ضد قضية التطبيع وأصبحت تدخل في مساحة وجهات النظر، بعدما كان الحديث عنها يجري على استحياء، ويحتاج الداعي لها للتترس والاحتماء من هجمات الرافضين واللاعنين، لكنها اليوم دخلت تلك المرحلة الجديدة التي أصبحت حاضرة بقوة بل يوصف الرافضون لها بأنهم في زمرة هادمي الدولة، وهنا تناقض بيّن عند المبررين للتطبيع في حالات كتلك، وهم دائما ما يصرخون لتحذير المجتمع من الداعين للحرية والديمقراطية باعتبارهم يتكسبون من أعداء مصر: أمريكا وإسرائيل.
مسارات التطبيع لم تعد الآن سياسية واقتصادية، بل أصبحت رياضية كما في تلك الحالة التي ربما ستفتح الباب بشكل أوسع خاصة لكون الطرف المصري صاحب سمت إسلامي ظاهري، وأيضا هناك مجال الفن الذي كان أحد قلاع مجابهة التطبيع، فمنذ مطلع هذه القرن لم تعد تحتل القضية الفلسطينية الحجم الذي تمثله في وجدان المصريين أو العرب عموما ولا في وجدان المشتغلين في هذا القطاع الهام، بل بدأنا نسمع عن القبول بالمعجبين الإسرائيليين كما ذكرت إحدى المطربات التونسيات في تعليقها على صورة لزميل لها من البلد نفسه، ولا يزال هناك تساؤل دائم عن أسباب غياب أعمال فنية تتحدث عن الصراعات المصرية بدرجاته المتنوعة مع دولة الاحتلال، خاصة نصر أكتوبر الذي يتم الاحتفاء به كل عام بأعمال فنية قديمة، أو عمليات استخباراتية مثل التي تم تصويرها في أكثر من عمل درامي، أو أغنيات كما كان يجري من قبل.
مؤخرا دخل القطاع الإلكتروني في تلك الدائرة؛ إذ أنشأت إحدى الشركات الإسرائيلية لعبة تجاوزت حد السبعين مليون مستخدم حتى الآن، وذكرت الشركة أن عددا لا بأس به من مستخدمي اللعبة "ملوك القراصنة" من الدول العربية كقطر والإمارات والكويت، وهذه الشركة تم إنشاؤها عام 2011 فقط، وتم تسويق لعبتها الأولى والوحيدة في 2013، واستطاعت تحقيق هذا الانتشار في تلك الفترة الوجيزة.
على المسار نفسه يغيب الحديث عن قطاع السياحة الذي أصبحت دولة الاحتلال أحد مصادره المهمة لمصر في خرق كبير لأمن هذا الوطن، واستخفاف أكبر بعلاقات المودة مع الأشقاء الذين يُمنعون من دخول مصر أو حتى مجرد المرور منها، فمعبر رفح الحدودي مرّ منه خلال عام 2015 فقط 12304 مسافرا على مدار 26 يوما فقط فُتح فيهم المعبر طوال العام على فترات متباعدة أحيانا كانت تتجاوز الشهرين، في حين اجتاز معبر طابا في الستة أشهر الأولى فقط من العام نفسه 68.5 ألف إسرائيلي، وفي الفترة نفسه من هذا العام بلغ العدد 100 ألف، وفي شهر يوليو فقط هذا العام بلغ عدد من اجتازوا ذلك المعبر 37 ألفا، أي أكثر من ضعفيْ من مرّ من الفلسطينيين في عام كامل، وتلك الأعداد تمثل إشارة واضحة لحجم الأمان الذي يستشعره الإسرائيلي أثناء دخوله مصر، ولا يستشعره الفلسطيني الذي ربما يتم اختطافه وإخفاؤه لمدة تتجاوز العام كما هو حال الفلسطينيين الأربعة، أو يُقتل في أقبية النظام كما جرى مع شقيق أبو زهري قبل الثورة، وربما لا يستشعر المواطن المصري المعارض درجة الأمان نفسها مع تلك السلطة الوحشية، وليس معلوما حجم الخرق الأمني الذي يترتب على هذا التدفق الوبائي لمصر.
ربما يظن النظام الحالي أنه نجح في تحقيق الأمان لجاره البغيض، وأنه ربما نجح في انتزاع شرعيته، لكن ما يمكننا قوله باطمئنان كامل أن النظم المستندة في بقائها على عوامل خارجية ستزول لا محالة، خاصة مع توحشها ودمويتها واستبدادها، وأن الكيان الصهيوني سيظل منبوذا في قلوبنا ووجداننا مهما حاولت النظم المتعاقبة تشويه ذلك المفهوم في وعي المجتمع، وما نراه أن لحظات الرفض عندما تتاح بصورة آمنة فإن القلوب تصدح مع الحناجر بالرفض، وهي كذلك تصدح بالمحبة لجيراننا وأهلنا المستضعفين المنكوبين، رغما عن أنوف حكام الاستبداد والفساد، ورغما عن أنوف أبواقهم الإعلامية الوقحة، ورغما أنف هذا الكيان الاستيطاني.